بقلم : عبد الرحيم عماري

بلقاسم سداين

 

 

صدر مؤخرا للأستاذ بلقاسم سداين عمل إبداعي قصصي، والكتاب يعد من الحجم المتوسط اختار له عنوان: صرح الإقصاء . وهو يضم 12 قصة قصيرة موزعة على 147 صفحة :
و الأستاذ بلقاسم سداين

من مواليد سيدي لحسن حيث تلقى تعليمه الابتدائي. وبمدينة جرادة واصل تعليمه الإعدادي،والثانوي وبمدينة وجدة نال شهادة الإجازة. وهو يشتغل حاليا أستاذا للغة العربية بمدينة تاوريرت. مهتم بالمجال الصحفي حيث كان سباقا لإصدار أول جريدة ورقية بتاوريرت (الحشد)، فاعل، وناشط جمعوي بالمدينة، وبمسقط رأسه سيدي لحسن حيث يترأس جمعية سيدي لحسن للتنمية والثقافة التي استطاعت أن تقدم الكثير لأبناء المنطقة، وفي عدة مجالات . ويترأس بنفس الجماعة : جمعية دعم التمدرس ومحاربة الهذر المدرسي، فاستطاعت الجمعية أن توفر للمنطقة 17 استاذا وتوزيعهم على المناطق التي لا يستفيد أبناؤها من التعليم. نال العديد من الجوائز في مجال الكتابة، والإبداع من داخل الوطن وخارجه (القصة، والشعر، و النقد) معروف بإبداعاته الرائعة التي لا تخلو من استفزازات للعقل . له عدة مقالات مختلفة في العديد من الصحف، والجرائد المختلفة الوطنية والعربية. مستشار جماعي لولايتين بسيدي لحسن. له ديوان شعر تحت الطبع بعنوان: ويكتمل العمر قبل الأوان .. ومشروع رواية تحمل عنوان : لن نوقف الامتداد .. بل نتركه يمتد.. له حضور وازن في عدة ملتقيات إقليمية وجهوية ووطنية..
وقد قدم لكتابه(صرح الاقصاء) بمقدمة مما جاء فيها: تمتد هذه النصوص عبر زمن يتكون من لحظات إبداعية، كنت من خلالها اصطاد الفكرة في إطار سفر فني، ثم أبحث لها عن طعم سردي يغذي أوصالها الفنية، لتنمو وسط تأثيث، وترصيف عناصر الصورة، والفكرة. إنه بحث عن تماس

تصويري للواقع في اتجاه تحقيق الدهشة التي تعد جوهر الفعل الكتابي..
و من تجاويف أزمنة، وأمكنة مختلفة ومتباعدة أحيانا ،كانت تطل مطالع هذه النصوص صرخة حزينة..وتبتدئ في تشخيص كل غائب وحاضر من مملكة الإحساس، حيث يأخذ القلم مادته الخام ..وأبدأ في سباحة إبداعية داخل خرائط الإقصاء، فيمدني إقصاء إلى إقصاء إلى أن أصل صرح الإقصاء..
وهو بذلك يعطي إشارات واضحة انطلاقا من العنوان الذي يعد عتبة وبوابة مؤدية إلى عالم، و مضمون الكتاب الذي نجد فيه القصص التالية :
الهزيمة/ ركوب القطار/ قبالة اللوحة/ زوايا/ نسيم العودة المنعش/ صرح الإقصاء/إلى الضفة الأخرى/ الكابوس الراتب/ المنحدر/ أرواح تفك أغلالها/ الرقم الموحش/ تقاطعات.
وما يلاحظ على هذا الإصدار قيمته الأدبية والفكرية و بناؤه السردي المعتمد على إفراغ المفردة أحيانا من معناها، وشحنها بشحن رامزة ، و بالتالي تفجير المفردة ويتم توظيفها توظيفا أوسع، وأجمل. لا يخلو ذلك من متعة أدبية رائعة ، ومفيدة. أو كما قال الكاتب نفسه في المقدمة التي قدمها لكتابه:
..انه بحث عن تماس تصويري للواقع في اتجاه تحقيق الدهشة، والمتعة الأدبية التي تعد جوهر الفعل الكتابي مادمت الكتابة / الشعور/الحياة…
انه عمل يعتمد على فسح المجال للا مرئي، واستنطاق فني لسماع ما لا يسمع، و لمس ما لا يلمس، وبالتالي وصف المعنوي بصفات مادية، ووصف المادي بالصفات المعنوية..ثم يعقد بين الكلمات والأفكار داخل النصوص القصصية زواجا غير شرعي أحيانا انه زواج فني بامتياز..إلى حد الجمع بين المتناقضات والمتنافرات مادامت الحياة جمع من المتناقضات وجمع من الفوضى..وهو ما أشار إليه الكاتب نفسه ص4:
..إنها لغة النداء النائم فينا..لقتل الموت، وإحياء الحياة..إنها لذة الكتابة..حيث تتشكل أحلام، و رؤى في إطار تداخلي تختفي وراءها ظلال الأفكار، وتتكاثف الأزمنة، والأمكنة و تختلط المتناقضات، وتتعدد المواجهات وتجتمع المتنافرات، فتطلق إشعاعات إيحائية، ورمزية مادامت الحياة جمع من الفوضى…
ويقترب الكاتب من المهمش في الحياة، ويعمل على تصويره بدقة أدبية جميلة والتقاط كل ما خلف الأشياء فتتسلل إلى قصصه أحلام ورؤى مستفيدة من أبعاد فلسفية،وعقلية وأحايين أخرى من أبعاد غيبية ميتافيزيقية، وصوفية، وأسطورية. و ذلك في إطار تداخلي وإعادة تشكيل الواقع ..
وقد تناول الكتاب عدة قضايا:اجتماعية، وسياسية، ووطنية، وعاطفية، وثقافية، ودينية ، وعقائدية، وعلمية وفلسفية..وتربوية…
وقد اختار المؤلف غلافا معبرا لمضمون نصوصه لونا، وصورة حيث لا تخلو صورة الغلاف من إشعاعات إيحائية، ورمزية بعيدة وموحية جدا …
وبالتالي فإن الأستاذ بلقاسم سداين قد يكون بعمله الإبداعي هذا قد عزز الساحة الثقافية المغربية بهذا الإصدار، وأضاف إلى سجل انجازات أبناء مدينته تاوريرت كتابه القيم هذا..والكتاب جدير بالمطالعة لأنه سيفتح نقاشا واسعا بين الأوساط المهتمة، كما انه كتاب تربوي بامتياز لأنه سينمي لدى القارئ ثقافة إبداعية جديدة، وسيغذي خياله، ومعارفه، وثقافته..فهنيئا لأستاذي..
وأختار لكم قصة من قصص المؤلف وهي الهزيمة .

اَلْهَــــــــــزِيــمَــــــــــةُ

كَم هُوَ خَبِيثٌ هذَا الدَّاءُ الَّذِي يَسْتَيْقِظُ في الذَّاتِ فَجْأةً..بَعْدمَا يَرْقُدُ في دواخِلِهَا أَعْوَاماً، فَأَعْوَامَ..يَحْمِلُ الإِنْسانَ صَاغِراً فَيُلْقيِ بهِ دَاخِلَ أَنْفاقِ الضُّعْفِ، والْهُزالِِ.. يَمْتَصُّ مِنْ دِمَاغِهِ.. يَتَغَذَّى مِن خَلاَيَاه..يَنْهَشُ عُمْرَه نَهْشاً..ثُمَّ يُلْقِي بِه ذَاتَ وَقْتٍ خَارِجَ أَبْراجِ التَّاريِخِ، وَلَنْ تَحُدَّهُ خَرِيطَةُ الأَحْلاَمِ. فكُلَّمَا اشْتَدَّ أَلَمُهُ تَرْتَسِمُ أَمَامَ الأَعْيُنِ خُطُوطُ التَّحَدِّي بِأَلْوَانِ التَّارِيخِ النَّائِمِ فيِ النُّفُوسِ. إِنَّهَا لَعْنَةُ الْقَرْنِ، تَحُلُّ شَامِخَةً تَطْرُقُ بَوَابَةَ كُلِّ فَرْدٍ عَلَى حِدَةٍ؛ فَتَرْتَمِي نِهَايَةُ الإِنْسَانِ أَمَامَهُ بِأَبْشَعِ الصُّوَرِ.
فكُلَّمَا تَعَرَّضَ إِنْسَانٌ لِهَذَا الْمَرَضِ، يَدْخُلُ صَاغِراً بَوَّابَةًَ ضَيِّقَةً رِحَابَ الْهَوَاجِسِ الْقَاتِلَةِ.. فَيَجْلِسُ مَقَاعِدَ تُذكِي فَتِيلَ الْمَرَضِ الَّذِي يَحُلُّ بِهِ..فَيَبْحَثُ عَنْ أَنَاه، فَيَجِدُهَا تَخْرُجُ إِلىَ مِسَاحَةِ الصَّمْتِ وَالْمُعَانَاتِ. إِنَّهَا مُضَاعَفَاتٌ كَشُوَاظٍ مِنْ لَهِيبٍ حَارٍ تَعُمُّ الآنَ جَسَدَ الْمُخْتَارِ هُوَ الآخَر.. فَيُحِسُّ بالدَّوَارِ..فَيُغْمِضُ عَيْنَيْهِ لِيَتَأَكَّدَ مِنْ أنَّهُ مُصَابٌ بِمَرَض..فَيَكَادُ فُؤَادُهُ يَنْشَقُّ لِضَغْطِ الدَّمِ الْمُسْرِعِ عَبْر مَنَاطِقِ كُلِّ جَسَدِه النَّحِيفِ:
يـَا لَـلْـمُـصِـيبَـة..! يَـا رَبُّ!..
عِبَارَاتٌ تَخْتَرِقُ بِسُرْعَة ِالْبَرْقِ مُحِيطَ وُجُودِهِ..فَتَمْتَصُّ مَنَاعَتَهُ الْمُتَبَقَّيَةَ..رُوَيْداً..رُوَيْداَ..ثُمَّ يَسْقُطُ مُنْهَاراً عَلَى نَبَرَاتِ صَرَاحَةٍ مُوجِعَةٍ عِنْدَمَا عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى نَفْسِهِ طَوْعاً، فَوْقَ طَاوِلَةِ مِسَاحَةِ الْوَطَنِ العَرَبِيِّ الكَبيِر صَباحَ ذَاتَ يَوْمِ عَرَبِيٍّ حَزِينٍ..
(.. إِنَّكَ مُصَابٌ يَا بُنَيَ، بِدَاءِ فَتَاكٍ، يَنْخُرُ كِيَانَكَ صَبَاحَ مَسَاءَ مُنْذُ مُدَّةٍ..)
(..مَرَضٌ فَتَّاك..؟؟) قَالَهَا الْمُخْتَارُ بِانْدِهَاشِ تَامّ.
(..نَعَمْ..إِنَّكَ مُصَابٌ بِمَرَضِ الْهَزِيمَةِ..!)
َتتَوَصَّلُ ذَاتُهُ بِالْخَبَرِ الْمُبَاغِتِ، فَيَحُلُّ عَبْرَ مَنَاطْقِهَا غَازِياً مُوحِشَا..
(..الْهَزِيمَــةُ..الْهَزِيمَــةُ..! ؟).
رَدَّدَهَا فيِ نَفْسِهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، فَاسْتَسْلَمَ لِهَوْلِ الخَبَرِ..وَاسْتَرْجَعَ الأَسْبَابَ..ثُمَّ تَأَكَّدَ مِنْ صِحَة مَرَضِهِ..إِنَّهَا الْهَزِيمَةُ الكُبْرَى..الْهَزِيمَةُ بِالتَّأْكِيدِ فِي كُلِّ اتِّجَاه وَفِي كُلّ مَيْدَان..!
وَقَفَ الْمُخْتَاُر كَسَعَفِ نَخْلِ مُلْقَى..تُدَاعِبُهُ رِيحُ الحِْيرَةِ..امْتَدَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى: خُطْوَةٌ..خُطْوَتَانِ..لَمْ يَتَمَالَكْ خَطَوَاتِهِ الَّتِي يُؤَطِّرُهَا هَيْكَلُهُ النَّحِيفُ..لَفَتَ يُمْنَةً وَشِمَالاً فَرَأَى مَخَالِبَ الهَزِيمَةِ تُطَارِدُهُ فِعْلاً..تَسيُر مَعَهُ فَتَتَشَكَّل فِي مُخَيِّلَتِهِ أَشْبَاحٌ تُرَافِقُه..ثَانِيَةً..ثانِيةً..دَقيِقةً..دَقِيقةً..فكُلَّمَا اسْتَبَدَتْ حِيرَتُهُ، تَنْسُجُ خُيوطُ مَشَاعِرِهِ، وَأَصْدَاءُ ضَجيِجِ ذَاتِهِ الْمُتَرَدِّدِ بِدَاخِلِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ؛ نِهَاَيتَهُ عَلَى خَشَبَةِ هَذَا الزَّمَنِ فيِ أَحْضَانِ َأرْضِهِ الَّتِي زُرِعَتْ فيِها طَحَالِبُ الْهَزيمَةِ خِلْسَةً؛ فيِ زَمَنٍ ِتَتَدَاخَلُ فِيهِ الْحَرَكَاتُ، وَتَتَشَكَّلُ الانْهِزَامَاتُ، وتَتَلاَطَمُ الاِنْقِسَامَاتُ، فَيَفْتَرِشُ الإِنْسانُ الأُفْقَ بِِرِعَايَةِ الِْانْكِسَارِ، وَسَيْطَرَةِ الدُّولاَرِ.
فَهَا هُوَ الْمُخْتَاُر الآنَ يَذُوبُ وَسَطَ الآهَاتِ، ويَعْلُو بِدَاخِلِهِ صَمْتُ التَّآمُرِ، فَيَسْمَعُ هَمْساً بِدَاخِلِهِ يَقُولُ:
حَــكَـمَ التَّارِيخُ عَلَيْنَا بِالْعَذاَبِ والْهَــزِيَمَةِ وَالذُّلِ وَالْإِغْتِـرَابِ
أَيَا صَاحِ فَقَدْ فَاتَ عَنَّا الرِّكَـابُ وَفِي لَيْلِنَا غَابَ سَبيلُ الصَّــوَابِ
وَكُلَّمَا تَوَقَّفَتْ رِجْلاَهُ عَنِ الْمَسِيرِ. وَلَمْ يَقْوَ عَلَى لَمِّ شَفَتَيْهِ لِيَصْرُخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ؛ اكْتَسَحَهُ نِدَاءٌ بَعِيدٌ:
(..أيُّهَا الْمُخْتَارُ..أَنْتَ عَلَى مَشَارِفِ الْاِنْدِثَار..تُطَالِعُ ذَاتَكَ..وَأَنْتَ مَلْفُوفٌ تَحْتَ غِطَاءِ مَوْتٍ نَسَجَتْهُ قَصْراً أَيَادِي خِفْيَةً هُنَا..وَهُنَاكَ.كَمْ هُوَ قَاسٍ أَيُّهَا المُخْتارُ أَنْ تَخْلَعَ عُمُركَ فِي فَصْلٍِ عَرَبِيٍّ بَارِدٍ..لِتَعْبُرَ كُهُوفَ وَوِدْيَانَ الهَلاَكِ والهَزِيمَةِ؛ فيِ ظَلاَمٍِ دَامِسٍ..)
تَوالَت الأَيَّامُ مُسْرِعَةً أَحْيَاناً..وَأَحْيَاناً أُخْرَى بَطِيئَةً..كَانَ خِلاَلَهَا المُخْتارُ يَطْوِي صَفَحَاتِ كِتَابِ تَارِيخ ِمَاضِيهِ، وهُوَ يَبْحَثُ عَنْ عِلاَجِ ذَاتِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَفَصْلٍ، وَيَلْعَنُ فيِ نَفْسِهِ هَمْساً مُسْتَدِيماً َيتَوَغَّلُ فِي صَبْرِهِ الْمَتِينِ. فَهَا هُوَ الآنَ لاَ يَسْتَطِيعُ طَرْدَ تَكَالُبِ فُضُولِهِ، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَحُدَّ وُجُودَهُ دَاخِلَ عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ.
(..هَلْ رَمَى بِي هَذَا الْبَحْرُ لَمَّا وَجَدَنِي مَيِّتاً..؟ لِمَاذَا يَمُرُّ التَّارِيخُ مِنْ حَوْلِي مُسْرِعاً ضَاحِكاً، وَأَنَا أَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيَّ، أَتَأَمَّلُ كِتَابِي الَّذِي بَدَأَتْ تَرْتَسِمُ فِي سَمَائِهِ أَبْرَاجٌ مَلِيئَةٌ بِالتَّجَاعِيدِ وَالْاِنْكِسَارَاتِ..؟)
أَسْئِلَةٌ عَمِيقَةٌ تَلْتَفُّ حَوْلَهُ..فَتُقَيِّدُهُ بِحِبَالِ الْفَشَلِ..عُقْدَةً..عُقْدَةً.. فَيَغُوصُ فِي رَنِينِ الِْانْكِسَارِ.. ثُمَّ يَضْحَكُ الْكَوْنُ كُلَّمَا رَأَى جُدْرَانَ دَقَائِقِهِ الْمُتَبَقِّيَةِ تَنْهَارُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِإِجلاَلٍ وإِكْبَارٍ.. فَيَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ صَمْتٌ عَائِدُ..
يَسْتَسْلِمُ اَلمُخْتَارُ لِلْمَرَضِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ لِيَسْتَيْقِظَ صَبَاحًا عَلَى دَوِيِّ انْفِجَارِ الْيَقِينِ مِنْ أَنَّ الْـهَزِيمةَ تُلاَحِقُهُ أَيْنَمَا حَلَّ حَتْماً..فَتَجْعَلُهُ رَقْماً سَالِباً فِي مُعَادَلَةِ التَّحَدِّي الْمُعَاصِرِ..
فَكَّرَ ذَاتَ لَحْظَةٍ أَنْ يَلُمَّ شَتَاتَ دِمَاغِهِ بِقُوَّةٍ..وَيُدَحِْرجَ بَصَرَهُ فيِ كُلِّ اتّجَاهٍ..وَيَعْدُو نَحْوَ الْأُفْقِ الَّذِي يَمْتَدُّ أَمَامَهُ بِلاَ نِهَايَةٍ. لَكِنْ يَعُودُ إِلىَ ذَاتِهِ فَتَبْدُو أَمَامَهُ طَرِيقٌ ضَيِّقَةٌ تَنْتَهِي بِانْحِنَاءَاتٍ كَأَنَّهَا ثُعْبَانٌ فَاتِحٌ فَاهُ.. فَيَتَصَوَّرُ أَنْيَاباً حَادَةً..سَتَنْغَرِسُ فِي جَسَدِهِ إِثْرَ وُصُولِهِ الْحَتْمِي إِلَيْهِ.
(..هَلْ سَأَبْقَى طَرِيحَ الْفِرَاشِ يَا أَنَا..وَكُلَّمَا أَفَقْتُ مِنْ غَيْبُوبَتِي أَجِدُ حِبَالَ الْفَجِيعَةِ تَشُدُّنِي إِلَى الْأَرْضِ..؟)
قَالَهَا الْمُخْتَارُ فِي نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ بِصَوْتٍ يَكَادُ يُخْفِيهِ عَلَى نَفْسِهِ..لِأَنَّهُ أَصْبَحَ لاَ يَقْوَى عَلَى عَكْسِ مُعَانَاتِهِ عَبْرَ قَوَالِبِ التَّوَاصُلِ الْمَعرُوفَةِ لَدَيْهِ..وَتَحَوَّلَتِ الْآذَانُ الصَّاغِيَةُ إِلَيْهِ عُيُوناً تُرَاقِبُ مَدَى خُضُوعِهِ لِمَرَضِهِ عَلَى خَشَبَةِ زَمَنٍ يُسْدِلُ سِتاَرَهُ عَنْهُ كُلَّ وَقْتٍ وَحِينٍ..فَيُصَفِّقُ الْجُمْهُورُ مِنْ حَوْلِهِ..ثُمَّ مَا يَلْبَثُ أَنْ يُصَفِّقَ هُوَ الآخَرُ لِنَفْسِهِ بِدُونِ شُعُورٍ أَوْ وَعْيٍ.. فَيَتَضَاعَفُ أَلَمُهُ..لَكِنْ مَا يَلْبَثُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَتَعُودُ إِلَيْهِ قَنَاعَةُ الِْاسْتِسْلاَمِ لِلْمَرَضِ..فَيُتَوِّجُ شُعُورَهُ هَذَا بِفَرْكِ يَدٍ بِيَدٍ..وَيَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ..وَيتَمَنَّى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ دِمَاغِهِ يَوْماً مَا..وَأَخِيراً قَرَّرَ الْمُخْتَارُ ذَاتَ صَبِيحَةٍ اعْتِلاَءَ جَبَلٍ بَعْدَمَا شَعَرَ بِارْتِفَاعِ دَرَجَةِ حَرَارَةِ الْهَزِيمَةِ، وَفُقْدَانِهِ لِأَمَلِ نَصْرٍ مُتَنَاثِرٍ هُنَا.. وَهُنَاكَ. تَخَايَلَهُ تَحْتَ خَيْمَةِ هَذَا الْوَقْتِ الْأَسْوَدِ الْجَاثِمِ عَلَى الصَّدْرِ. اِخْتَارَ هَذَا الْمَكَانَ لِيُكَلِّفَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ مُرَاقَبَةَ وَادٍ يَلْتَفُّ بِهَذَا الْجَبَلِ كَحَيَّةٍ رَقْطَاءَ. لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ مِنْ وَقْعِ مَرَضِــهِ وَيَتَقَمَّصُ لِنَفْسِهِ وُجُوداً كَهَذَا الْوَادِي الَّذِي يُدَاعِبُهُ السُّكُونُ الْقَاهِرُ وَالْأَنِينُ الْجَاِئرُ..
اِخْتَارَ الْمُخْتَارُ كَمَا اخْتَارَهُ المْرَضُ أَنْ يحْمِلَ هَزِيمَتَهُ لِوَحْدِهِ.. هَزيمَةً محْشُوَّةً بِنَبْضِ السِّنِينِ فَيُؤَسِّسُ لِنَفْسِهِ مَأْوَى عَبْرَ هَذَا الْخَلاَءِ..حَيْثُ الهُدُوءُ يُحَاصِرُ كُلَّ شَيْءٍ لِيَرْقُدَ فَوْقَ فِرَاشِ الهَزِيمَةِ إِلـَـى حِينٍ..لَكِنْ سُرْعَانَ مَا يَنْفَجِرُ بِدَاخِلِهِ اعْتِقَادٌ قَاهِرٌ بِأَنَّ هَزِيمَتَهُ بَعْدَ سُقُوطِ جَسَدِهِ فِي حُفَرِ الْمَوْتِ الْقَرِيبِ سَتَتَحَوَّلُ هَامَةً تُجَاوِبُ مِيَاهَ الْوَادِي، وَيَتَرَدَّدُ صَدَاهَا َأعَالِي اَلجِْبَالِ، وَتُنَادي :
(..اُسْقُونِي..اُسْقُونِي..!).
(..اُسْقُونِي..اُسْقُونِي..!)