بقلم : الخضير قدوري

الخضير قدوري

 

      عندما كان للكلام وزنه، كان يزان بميزان الذهب قبل أن يغادر مستودعه الآمن صعودا إلى مهجة القلب، نحو اللسان مرورا بالشفاه والأسنان.وقبل أن يتجاوز هذه الحواجز المنيعة ،قلما كان يجد سبيله سالكا ويخلو من سيف وسوط ،ومن مسدس وكيس يصدر فيه صاحب الكلام الغير الموزون الى عوالم المجهول والنسيان ، وأحيانا إلى القبر وهو الكفن . ولطالما قالوا إن لسان المرء أسده إن أطلقه ياكله

   ولما خفت موازين الكلام ، أصبح ضرتا ممتزجا وجد سبيله  نزولا الى مخارج بعض المتقولين عبر المعي الغليظ  الى المرحاض ،قبل ان يزكم الأنوف ويلوث البيئة ويفرق جمع المجتمعين  ،وهو أسهل السبل قد يسلكه كثير من اللئام ، الذين قضوا معظم حياتهم في حالة صيام ،إلى أن  سمح لهم الزمان الرديء بالإفطار والجلوس حول موائد الطعام،  ليملئوا البطون ويلوكوا الكلام ، حتى تتقوى عندهم شهوة النهم ،وعلى شفاههم كان  المرق يسيل والايدام، تراهم كشر أكلات اللحوم وهم لا يعرون للقول أي اهتمام ،

     وعندما كان للقلم ثمنه أيضا ،قلما كان يعار او يستجار، وقلما كانت تعرف قيمته إلا من حيث كونه من رصاص . ومن فصيلته السيف والقرطاس ،وحينما صار القلم من فحم وأصباغ ملونة ،وثمنه  سنتا لعشرة ،فهاهو القلم  قد أصبح كلا على حامله وعارا على صاحبه، تتلاعب به أنامل الجهلاء، ويسخره فيما لا يعنيه  السفهاء  

   رحماك يا زمنا كان الكلام زينة الرجال،وجواز المرور إلى قلوب عشاقه ،وتأشيرة الدخول إلى مواطن العلم ومجالس أعرافه ، حيث كان يؤخذ  بأيد أصحابه فيبرون.  ولما صار غير ذلك فهاهم المتشدقون في الكلام بلا حياء يتطاولون على الكلام في عز الكلام ، ويتطفلون في المجالس حيث يؤخذ بأقدامهم ويجرون، غير مبالين ودون أن ينال الجر من كرامتهم وكبريائهم ولكن من أقدامها  تجر الجيف وتلقى في مزابل التاريخ.

      انه مجرد خطأ إملائي كلف الدولة البريطانية 13 مليون دولار، ودمر شركة عمرها 124 سنة والعهدة على القناة الفضائية “R T ” وموقع الجريدة الاليكترونية “روسيا اليوم “.ولمجرد زلة لسان رئيس حكومتنا الموقر امام مجلس البرلمان اصبحت الكلمة الغير الموزونة عنوان كل الصحف الوطنية باعتبارها زبدة كلام السيد بنكيران . أ إلى هذا الحد صار الكلام الرخيص والقلم الملون يكلفان اصحابهما ثمنا غاليا ؟ ام أصبح الوضع يستدعي المتكلمين عامة الى وزن كلامهم بميزان الذهب، وعودتهم الى معاجم اللغة وقواميس النحو والاعراب ، ويحذر المتلاعبين بالأقلام ليكبحوا جماحها ، قبل ان تقطع ألسنتهم وشفاههم ،وتكسر أسنانهم  وأحيانا قد يسبق السيف العدل .كما سبق الى احد المتكلمين  بالامس القريب من كان يؤمن بمفهومه الخاطئ لحرية التغبير ، إلى أن تكسر عظمه وتقطع لحمه وسال دمه وكان بدوره ضحية خطا إملائي يتمثل في سقوط النقطة عن حرف الغين ، رغم ذلك لم ينصفه المدافعون عن حرية التعبير او” التغبير ” او يحميه المناضلون من اجل التغيير  ، او تجديه منظمات حقوق الإنسان ،او يغيثه السيد محمد ابن الحسن ، او تشفع له دمعه الهتان، ولعله كان عبرة لمن يعتبر، ولكل من ينهش في أعراض الناس ويمس بكرامة الغير.

     إننا لم نكن مخطئين عندما  نحن في بلدنا اليوم ،ونحن على مشارف عقود ما بعد الخمسين، الى زمن كنا نسال أحيانا عن خطأ إملائي او نحوي، ناهيك عن زلات اللسان. فنجر الى المحاكم ونغبر في السجون . ونؤدي الثمن غاليا لنعترف بعد رحيل العمر بأننا كنا مخطئين ،ولم نكن حقا نحسن التعبير عما يخالج صدورنا بلغة سليمة ،حتى يفهم غيرنا إننا على صواب ، كذلك الشأن بالنسبة لبعض المعبرين الجدد، ممن لم ترض عنهم  لغتهم او تطاوعهم ألسنتهم او تسعفهم أقلامهم ، فعمدوا الى نقر الحروف على الة الحاسوب ليخلقوا لنا أبجدية عربية بأحرف لاتينية مليئة بالأخطاء الإملائية ،واقصد بالقول بعض الفايسبوكيين الذين تخرج بعضهم من الكتاتيب القرآنية ،وجلهم من مدارس محو الأمية ،وقليل منهم مر بالأقسام التحضيرية .وكلهم لا يعلمون حتى معنى كلمة الفايسبوك بلغة مؤسسها الذي يريد بها ” وجه الكتاب ” بلغتنا العربية، حتى يجعل من موقعه منتدى للتواصل الرزين ،والحوار البناء ومناقشة الأفكار، وتبادل الآراء ،واحترام الغير، حتى يكون المتحاورون في مستوى القلم والكتاب وقمة الأخلاق والأدب، ذلك ما نلمسه لدى المجتمعات الراقية. في الشرق والغرب ، بينما يستعمل بعض “القرديين” المتنطعين هذه المواقع للشتم والسب والقذف ،والنهش في أعراض الشرفاء ،وقذف المحصنات دون حجة ولا دليل وبلا حياء.وإنما حسدا وبغضا وقد خلقهم الله أدنياء، شاءوا أن يخفوا دناءتهم وراء عظمة العظماء، ونقصهم خلف كمال الرجال، وضعفهم وراء قوة الأقوياء ،ويحاولون ان يستمدوا

 مادتهم الخسيسة من مجادلة العقلاء هيهات . الي حد ما قد يقبل احد هؤلاء الأخيرين مذمته من ناقص، لتكون شهادة له بأنه كامل، ولكن قد يرفض معظمهم ان تأتي  محمدتهم من ناقص ،لئلا تكون تزكية لهذا الأخير  بأنه كامل .

   رحماك يا زمنا كانت اللغة العربية تقف شامخة الرأس متوجة بتاج العزة ،معززة بنبوغ الأدباء وبلاغة النحاة ، ثم تعد كل الغواصين الى أعماق بحرها، ان هم وصلوا الى مكامن دررها وصدفاتها ،  فتزف إليهم أجمل عرائسها اللائي لم تجد لهن بعولا وأكفاء ،فحق عليها بعد ذلك واد بناتها . ورحم برحمتها رجالا عرفوا قدرهم فجلسوا عنده ،وعلموا حدهم فوقفوا دونه

     لكن الأسد لا تنبح، والفهود لا تموء ،ورجال الغابة لا يهز شواربهم زئير الأسد ،ولا تنال من جلودهم مخالب الفهود، وبالأحرى ان يزعجهم نباح البراهيش ،او يحيرهم شخير الهررة وحفيف أجنحة الخفافيش، فمن عرفهم فقد عرفهم ،ومن لا يعرفهم فلا يسال عنهم من لا يعرفون آباءهم