بقلم: مبارك ابا عزي

Sans titre

 

 

عندما حكمت المحكمة المصرية على نصر حامد أبو زيد بتطليق زوجته بدعوى أنه أصبح مرتدا، كان ذلك بتحريض من الإسلاميين. وعندما قتل فرج فودة، وهو رجل مسلم، كان ذلك بسبب فتاوى بعض الفقهاء الأزهريين.. وحينما طرد علي عبد الرازق من عمله في القضاء عندما نشر “الإسلام وأصول الحكم” كان ذلك بسبب علماء الأزهر مرة أخرى. ولما وضع المستشار محمد سعيد العشماوي في قائمة الاغتيال، كان الإسلاميون هم من وضعوه فيها. وعندما تم تكفير إدريس لشكر وأدونيس وسعدي يوسف قبل أشهر كان الإسلاميون هم من كفروهم. وإذا أردنا أن ننقل كل المصادرات التي تمت في حق المفكرين على مر التاريخ فلن تكفينا الصفحات القليلة، بل يحتاج هذا العمل إلى كتب ومصنفات.
لهذا لا يهمنا كثيرا العودة إلى ما حصل في الماضي لنبرر به حاجة المجتمع إلى العلمانية، لأن الحديث سيطول بنا في سرد الكم الهائل من الجرائم والأخطاء التي ارتكبت باسم الإسلام في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية، بل إن ما يتغياه هذا المقال لهو تأمل ما يحدث في المجتمعات المعاصرة نتيجة التداخل بين الديني والسياسي، وبيان أن كثيرا من الدماء والأخطاء ما كانت لتراق ولترتكب لو تم التحفظ من هذا التداخل، أي حينما يصير المجتمع علمانيا.
للتداخل بين الديني والسياسي تجليات مختلفة نحدد أبرزها في نقاط ثلاث؛ النقطة الأولى تتجلى في استراتيجية الوصول إلى السلطة المعتمدة على المرجعية الدينية، وخطورة هذه الاستراتيجية تكمن في أن المنتخبين لا يستطيعون أن يقولوا “لا” للدين، ومن ثمة يصبح الدين ملاذا لكل من تجيش فيه رغبة الحكم. ولنا في حزب “العدالة والتنمية” الذي تولى الحكم النموذج والمثال، فقد وصل إلى السلطة لأنه اعتمد المرجعية الدينية التي تعتبر وترا حساسا في قلوب الناس، لهذا فالمنتخبون لم يصوتوا على برنامج سياسي، بل صوتوا على خلفية دينية، كل واحد يمتلك عنها تصورا معينا يكون مخالفا للآخر.
النقطة الثانية تتمثل في استغلال الدين بعد الوصول إلى الحكم في تكريس نمط معين من التفكير في الدين، وهذا الأسلوب له آثار وخيمة على اعتقادات المجتمع الدينية، نبرزها كالتالي: في مصر مثلا هناك اختلافات شاسعة بين الإخوان المسلمين والسلفيين والأزهر، ويقومون حاليا بتكفير بعضهما البعض، فلو كتب لأحد هذه التيارات أن يصل إلى الحكم فلن يكفر العلمانيين والاشتراكيين والمسلمين العاديين فحسب، بل سيكفر طائفة من المحسوبين على الإسلاميين المتشددين أيضا، والتكفير قرينه الجهاد، والجهاد قرينه القتل وسفك الدماء.
أما عن البلدان التي تتواجد فيها الطوائف السنية والشيعية على السواء، فالتكفير فيها يصبح على أشده؛ وبيان ذلك أن السنيين الذين لا يعترفون بولاية الفقيه يعتبرون في نظر الشيعة مرتدين لأنهم يكْفرون بركن سادس من أركان الإسلام، ومن جانب السنة فهم يعتبرون الشيعة منكرين لما هو معلوم من الدين بالضرورة حينما يقولون بتناسخ الأرواح، ومن ثمة فهم كفار، والأمثلة على ذلك كثيرة. وإذا عدنا إلى المغرب، فسنجد فوضى الشرق قد حلت فيه بمساوئها العظيمة، فاختلاف التصورات السياسية لجماعة “العدل والإحسان”، هو ما جعلها ترفض الاندماج في اللعبة السياسية، ومعنى ذلك أن الجماعة، لو قُيِّد لها أن تحكم، ستفعل ذلك اعتمادا على برامج لا علم لنا بها، لأن مشكلة المنادين بالحكم الديني تكمن أساسا في أنهم لا يضعون برامج سياسية محددة وشاملة، وإنما يكتفون بالقول إن الحكم لله، مع العلم أن المجتمع المغربي لن يهتم ببرنامج سياسي يوضع فيه قطع الأيدي ورجم الزاني على قائمة العقوبات الجنائية. وقد سبق لأحمد الريسوني، المنتمي إلى حركة “التوحيد والإصلاح”، أن كتب مقالات في جريدة المساء سنة 2007، يدعو فيها إلى تطبيق الحدود، واعتبر السجن إهدارا للمال العام.
أما حزب العدالة والتنمية، فإن كان يعتبر إمارة المؤمنين والملكية من المقدسات الوطنية، وهو ما يعني الخضوع للتمثيلية الدينية الموجودة، فلابد أن قِصر اليد، والعجز عن إزاحة هذه التمثيلية الدينية، جعله يسلم بالواقع القائم نظير تلذذه بما تتيحه كراسي السلطة الأثيرة من ظهور إعلامي، واغتناء مادي، وذاكرة تاريخية، وغير ذلك.
النقطة الثالثة والأخيرة كامنة في توظيف الدين في الأغراض والمصالح الشخصية المرتبطة بالفرد أو الجماعة. وقد كان من حسن حظنا أن عثرنا على نص لأحمد الريسوني، يفضح فيه تصرفات حزب العدالة والتنمية، يقول فيه: “فلننتقد –مثلا- حزب العدالة والتنمية، إذ أصبح قادته مهرولين للمناصب والمكاسب.. أو اشتغلوا بتوظيف أبنائهم وترقية أقاربهم، أو قاموا بظلم خصومهم ومخالفيهم” (الفكر الإسلامي وقضايانا السياسية المعاصرة، دار الكلمة، ط.1، ص.51). كما سبق لمصطفى الخلفي، المتكلم الرسمي باسم الحكومة، أن أصدر بيانا يؤكد فيه –بعد أن فضحته الصحافة الورقية- أنه تدخل لابن أحد المنتمين لحركة التوحيد والإصلاح بعد أن طرد من عمله بسبب الإهمال والغياب المتكرر، الأمر الذي جعل سيادة الوزير يتدخل من أجله مبررا ذلك أنه يتدخل لينصف باسم القانون، وهو لا يدرك أن تسعة وتسعين في المائة من المغاربة لا يحتاجون إلا من يتدخل لهم باسم القانون أيضا، والحقيقة المخزية هي أن أفراد الحزب يتدخل بعضهم لينصَف البعض الآخر، ويظل المواطن في قاع المشاكل الاجتماعية دون منصف.
هذه النقاط الثلاث التي أبرزناها، تقدم تصورا مبتسرا وناقصا عن مخاطر التداخل بين الديني والسياسي، لكنها على العموم كافية للتدليل على أن الحاجة إلى العلمانية أصبحت أمرا ملحا، لكي يتم الحد من الممارسات التي تسيء إلى الدين الإسلامي قبل أن تسيء إلى المسلمين. وقد قال أحد أساتذة الأزهر، ويتعلق الأمر بأحمد كريمة، إن المسؤول عن وجود ما يزيد على مليونين ونصف ملحد في مصر، هو سلوك الدعاة وفتاواهم وأخطاؤهم، لهذا فمن الأجدر بالخطاب الإسلامي، في أي مكان، أن يكف عن حشر الإسلام في أمور السياسة، حفاظا على كلام الله المقدس من التدنيس.
وأظن أن العلمانية التي يكيل لها كثير من الناس المقت والنفور ستصبح في ما بعد مصطلحا عاديا يتشدق به الإسلاميون أنفسهم، وتراهم يعودون إلى التراث الإسلامي ليبحثوا فيه عما يدل على أن العلمانية كانت موجودة لديهم، كما فعلوا بشأن الديموقراطية التي تناسب لديهم الشورى، والتي كانوا يعادونها في ما مضى.
لقد كان الإسلاميون يدنسون صورة السياسيين الذين لم يجرفهم تيار السلفية بترويج صفة “الديموقراطيين” عنهم، ويحكى أن لطفي السيد وهو يترشح للانتخابات جاءه نفر من الناس وقالوا له مستغربين إنهم سمعوا بأنه ديموقراطي -وتلك صفة سلبية في نظرهم- وأجابهم أنه كذلك، وأنه سيظل ديموقراطيا إلى الأبد. ومن الأكيد أن العلمانية سيكون لها المصير نفسه، ذلك أن الإسلاميين سيتشدقون بها ويدافعون عنها في مقبل الأيام. ونظل بعدها علمانيين إلى الأبد.