بقلم: امحمد لقماني

محمد لقماني

 

لم تغب ثقافة الاصطفاف السياسي في وعي النخبة الحزبية بالمغرب، في تعاطيها مع الأحداث والوقائع السياسية التي كانت البلاد مسرحا لها منذ ما يزيد عن أربعة عقود، سواء في لحظات الصراع العنيف حول السلطة أو في الفترات التي أعقبت تحقيق تفاهمات كبرى حول طبيعة وشكل النظام السياسي المغربي. فقد كانت الإرادة المعلنة في الخطاب السياسي تنحو نحو خيار التكتل و التجميع في محاولة لتقوية الصفوف وململة موازين القوى داخل المجال السياسي، وفرض المطالب المرتبطة أساسا بالديمقراطية السياسية باعتبارها مدخلا للقبض بمفاتيح القرار العمومي من أجل إدخال إصلاحات وتغييرات على باقي البنيات والمجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
غير أن التجربة بينت حجم الصعوبات التي اعترت محاولات التكتل بين القوى السياسية والاجتماعية، ليس فقط بالنظر لقوة الخصم أو لصعوبة تفكيك بنيات عصية عن التحديث والإصلاح، ولكن أيضا – وأساسا- بسبب عدم حصول توافقات حول المشروع المجتمعي البديل بعد أن زاد من حدتها الخلافات العميقة بين مختلف التصورات المرتبطة بمداخل التغيير وأدواته. يقع هذا رغم ما جرى من فكٍ للارتباط بين الديمقراطية كهدف واستراتيجية العنف الثوري كأداة للتغيير، بما يعني ذلك من الإبقاء على مفهوم الثورة ومضمونها في التصور للهدف الديمقراطي و إعادة النظر في منهج التغيير و أدواته الوظيفية.
كما أن واقع انشطارية الحقل الحزبي بالمغرب لم يمنع من القيام بمحاولات وحدوية، اتخذت أشكال مختلفة تراوحت بين التحالفات والجبهات والأقطاب والتنسيقات و التجمعات، وصولا إلى فكرة الاندماج. غير أنه، وقياسا بحجم التأثير داخل المجال السياسي، خاصة في لحظات الضعف التنظيمي و الاختلال الواضح لميزان القوى، لم يتجاوز مفعول هذه المبادرات حدود المذكرات المطلبية والبيانات الاحتجاجية والمهرجانات الخطابية السياسية. فحتى القاعدة الاجتماعية المعنية بالتغيير كان يتملكها حماس لحظي، زال مفعوله مع تبدد آمال تغيير حقيقي وملموس.
ورغم النوايا المعلنة ، لم تنجح الاصطفافات المتعددة في خلق الولاء للأهداف العليا للمشروع الديمقراطي، بقدر ما كانت محكومة بأهداف انتخابية وبسقف المشاركة في الحكومة. ومرد ذلك في الغالب إلى كون إرادة التغيير الديمقراطي غاب عنها سؤال المرجعيات، مما أفقد استراتيجيات العمل السياسي ذاك الأفق الذي يسمح بإحقاق التراكم في المنجزات.
لا شك في أن راهن المخاطر المحذقة بالسياسة والمجتمع، يتطلب استحضار مفهوم الاصطفاف الديمقراطي أكثر منه المقاربات التقليدية للتحالفات الهشة المبنية على أجندة انتخابية محدودة الأفق والغايات. ولهذه الحاجة التاريخية ما يبررها: فواقع الحال ينبه إلى الخطر المحذق بالوطن في وحدته، وبالدولة في سيادتها، وبالمجتمع في تماسكه، وبالديمقراطية في مكتسباتها. إنها لحظة تاريخية فارقة، تتطلب من الديمقراطيين إعادة بناء المرجعيات و تمتين الأساسات وترتيب الأولويات. فالغاية الكبرى هي حماية الديمقراطية من أعدائها، وتحصين الدولة من خطر التجنيد الإيديولوجي، وتمنيع المجتمع من آفة الفتنة والطائفية والانقسام.
إن الاصطفاف الديمقراطي بهذا المعنى يتجاوز حدود المعارك الانتخابية والتاكتيكات السياسية الظرفية – على ضرورتها و أهميتها-. إنه يتحقق موضوعيا، و بفعالية أكبر، متى يتم الاشتغال على المساحات المشتركة التي يتيحها تقارب المرجعيات الفكرية والثقافية، وتقاطع الأهداف السياسية المرتبطة بالمشروع الديمقراطي ، ثم العمل المشترك على أساسها بانتظام وتراكم في المنجزات، على الواجهات الحزبية والنقابية والنسائية و الحقوقية والبرلمانية و الإعلامية. معنى هذا أن وحدة الانتماء إلى التيار الثقافي والفكري الحداثي والديمقراطي، يظل هو الإسمنت المسلح لتقوية البناء الاصطفافي، ويضمن له الاستمرارية رغم عدم حصول تفاهمات سياسية بين أطراف العائلة الديمقراطية التي تمليها أحيانا ظروف التنافس السياسي المشروع.
لم يكن، إذن، التفكير في المشروع المجتمعي الديمقراطي محمولا على مشروع ثقافي يوفر له بنية تحتية استقبالية، فكرية وتربوية و سيكولوجية، تمكنه من التوطين في مجتمع عصي عن التحديث. فأغلب مشاريع العمل السياسي المشترك أبقت على البعد الثقافي في حكم المؤجل، إما بمبرر أسبقية الإصلاح الدستوري وتحقيق الديمقراطية السياسية، أو بدريعة أولوية قضايا الوحدة الترابية التي تعلو على ما سواها من قضايا. وهذه كانت من جملة الأخطاء في تقديرات القوى الديمقراطية، حتى إذا ما أضفنا إليها سياسات السلطة في إقبار مصادر الفكر التنويري والعقلاني في المجتمع، تكون قد اجتمعت لدينا كل أسباب أعطاب المشروع الديمقراطي الحداثي الذي نعيش تبعاته الوخيمة اليوم. وما انتشار الفكر الأصولي والطروحات النكوصية داخل المجتمع، سوى إحدى تجليات هذه النكسة التي قد تعصف بما تحقق من مكتسبات تاريخية.