بقلم : الخضير قدوري 

تاوريرت

 

كل شيء يبدو فيها جامدا باردا كالتراب البليل ، ساكنا هادئا كهدوء يسبق عاصفة لم تعلن عنها الأرصاد الجوية ،لا حركة فيها إلا حركة سيارات تجوب الأزقة وأخرى تجثم على قارعات الأرصفة ، ومن  معطلين متكومين في زوايا المقاهي يغشاهم دخان الغلايين، يطوف عليهم نوا دلها بأكواب مختلف شرابها  وألوانها ،ومعظمها سوداء سواد زفت مطعم بنكهة التبغ وسموم القطران.   

   وعلى أرصفة متضايقة تواجهك وجوه مارة مكفهرة ،وأشخاص عيونهم شاخصة إلى أفق بعيد ،كأنها تترصد شبحا غير مستقر  وخيال متطاير ، أو تطارد طيف أمل على ركيب سريع . رجال ونساء من كل الأعمار تائهين في دروب العتمة، يبحثون عن شيء ضاع منهم في مدينة الضياع

   وبإطلالتك على ردهات الإدارات العمومية والخصوصية حيث يبدو لك أناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، يستندون إلى جنباتها في انتظار مسئول قد يأتي أو لا يأتي ،أو قد ينتهي من اجتماع يبدأ ولا ينتهي إلا بانتهاء صبر الصابرين .وليس ثم من يختزل زمن  انتظارهم ،أو يضع عنهم أوزارهم التي انقضت  ظهورهم ، سواهم من يخففون عنهم وعن أنفسهم بسرد الحكاوي والأقوال المأثورة والأحاديث الواردة في شان الساعة وقيام القيامة ، كقوله صلى الله عليه وسلم  ” إذا أسندت الأمور لغير أهلها فانتظر الساعة ” وكأنهم من منتظريها حقا .في حين يذهب بعضهم الأخر إلى الأقوال المأثورة والحكم البالغة والى أقوال الشعراء كقول بعضهم ” تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ـ وإذا تولت فبالأشرار تنقاد ” وكقول الأخر ” مت يا بعير واخفقي يا شاة ــ لقد انهمك في اللهو الرعاة “وكأنه يريد بالقول قوله ” اصبر يا وطن وانتظر يا مواطن لقد انهمك المسئولون في الاجتماعات ،منشغلين عنك  بالتفاهات،  وتبادل المجاملات ،وخذ وهات. فلا ابقي بعد ذلك من يحيا فيها، ولا أحيا عليها من مات “

  لكن رب ليل هذه المدينة بدفئه وسهره وحميميته ،ومآدب عشائه واختلاف موائده  ،يتميز  ويختلف عن نهاره . إنها مدينة ساهرة تواصل ليلها بنهارها دون أن يؤرق جفناها الأرق، وأناس ليلها غرباء عن أناس نهارها ولكلا الطرفين عالم  فيه النعيم والجحيم ، تراهم جميعا وقلوبهم شتى ،على الإصلاح مختلفين وعلى الإفساد كتلة واحدة، قليل فيهم من ينظرون إلى مواطئ أقدامهم في دروبهم الموحلة وطرقهم المحفرة ودروبهم المظلمة ،منشغلون عنها وعن أحوالهم بسياسة البهدلة والنفاق ،والكذب وسوء الأخلاق .متمسحين بمسوح العارفين  والعلماء  والمفكرين   

   إنها مدينة تجمع بين كل المتناقضات بكل المقاييس المتقاربة وبنفس المعايير المتباعدة ، فليلها نهار ونهارها ليل لا يتشابهان ،وغنيها فقير وفقيرها غني لا يجتمعان ،وعالمها جاهل وجاهلها عالم لا يستويان، وأميها مثقف ومثقفها أمي لا يلتقيان، فهل بعد ذلك  يستقيم عودها و يتقوى عمودها ويصلح وضعها ، ويدبر شانها فيغير الله ما بها ،كلا ..إلا أن يغير ما بأنفسهم أهلها ،ويتداوى من أمراض الأنانية والأطماع وحب الذات مجتمعها.

   فإلى ذلك الحين ستبقى مدينة تاوريرت معطلة جامدة جاثمة في مربضها،ولن تنبعث من مرقدها إلى أن يأتي الله بقوم غير قومها ،فيشيدون مدينتهم على أنقاضها، ويقيمون حضارتهم على رفات أمواتها ، من طمس الماضي معالمهم ، وتنكر التاريخ لذكرهم  إلا أن يذكر بسوء منقلبهم وينذر بعاقبة أمورهم ،وخلاصة القول في اعتقادي أن يبقى تثقيف السياسي واجبا ،وتعليم الديمقراطي أساسيا ،وتوعية المحرر ضروريا ،في حال أريد لهذه المدينة أن تستجيب لقدرها حتى ينجلي ليلها وينكسر قيدها فتبدأ حياتها  .