نهاد مهدي:

Sans titre

 

 

جلست هادئة تحيك خيوط الصوف وترمق أَهازيج الرياح الماطرة تصْطَكُّ أسنانها٬
لتنبعث من الجو رائحة انسجام الزمان و المكان.
مرت الساعات وتراكمت الدقائق حبلى بثقل الدهر العليل، فتصارعت الخطى لإنهاء حبك الصوف .
على أنفاس الصمت أخذت تسف قهوة ممزوجة بالقرنفل وذكريات الآلام والآمال، يزحف فوق جبينها عُمُرٌ مر بكل أهدابه، تاركا وراءه أُسطورة عميقة الأثر..
انتصف الليل، وانتصف معه الزمن، فأوشكت بطلة السهرة على إنهاء قميص لونه السواد الملون بألوان الطيف..
لم تتعب من الغزل، رغم أن عيناها اغرورقتا من التعب واحتضن الجفن البؤبؤ، ثم تدلت قطرات السنى من على قمة الإرهاق، فأَبت بطلتنا إلا أن تحيك قميصها الغريب ذاك.
مزجته بكل رياحين الحنين و الشوق إلى مجهول لم تفصح عنه لأي قطر من إرجاء البيت الخالي الذي تسكنه..
كان سرها الذي كتمته قناديل صمتها قرنا من الزمن؛ حيث ولد قبل مولدها وعاش معها وستفنى ليبقى شاهدا على انها مرت من هنا يوما٬ عابرة من فوق قنطرة التاريخ
واستمرت في نسج خيوط الصوف المزركشة بالسواد، حتى آخر أنفاس الليل ثم فجأة اكتشفت أن خيوط الصوف تلك أخذت تتفكك لوحدها، لتلتف ككبة صوف من جديد٠٠٠
وعنصر المفاجئة أن بطلتنا لم تتفاجئ أو تتذمر؛ إنما ابتسمت وملأت كأس قهوة آخر، ثم فتحت باب النافذة المطلة على الحديقة الثانية لتبدأ الحياكة من جديد
أي قوة هاته وأي عزم وإصرار !
أمضت عمرها تحيك كبة تتفك ما إن تنهي أسدال خيوطها، تطوي الليالي وتُلَمْلِمُ شمل الأيام..
واستمرت في مسارها تهضم ملوحة وعلقم العراقيل حتى بزغ فجر صباح فُراَتٍ لم تتفكك فيه خيوط الصوف ..
أخيرا أنْهَت حياكة ما بدأته.
لكن فجأَة هبت ريح عاتية جرفت قوارع حروف النافذة، بما فيها قميص الصوف ٠٠٠
الغريب مرة أخرى أن البطلة لم تتفاجئ، لكن هذه المرة كانت ردة فعلها أكثر برودة وتعدت كل حدود الصمت
و بعد أيام غابت عن الظهور في الحي، لتطرق جارتها الباب فتجد صاحبة الصوف قد انتقلت الى العالم الاخر ما إن أنهت حياكة القميص أخيرا
ووجدو محياها مشرقا، تَعْلُوه ابتسامة أمل من ُزبَر الحديد و القطران
دفنت و دفن معها سرها و لم نعرف أي مجهول تنتظر
وبعد أيام، مر فقير من الشارع حيث كانت تقطن حائكة الصوف يرتدي ذلك القميص في زفرات البرد تغمره سعادة الدفئ ٠
أجل! سر البطلة كان وراءه فقير ينتظر الستر من وغى البرد القارس و لم تَكلَّ بطلتنا يوما في الاصرار على إنهاء حياكة القميص
وافتها المنية، لكن تركت أثرا يمر على جنبات بيتها فيرمقه بنظرة شكر خفية٠٠٠