بقلم : المختار أعويدي

phpThumb_generated_thumbnail

 

 

قبل بضعة أيام، وبعد خروجي من سوق السمك، المقزز سيء الذكر بمدينة العروي، الذي يبعث منظره على الغثيان، من فرط أوساخه وروائحه الكريهة النتنة، الناتجة عن الإهمال واللامبالاة المفرطة، بصحة المواطنين وسلامتهم، ومحيطهم البيئي. وبينما أنا واقف أتبادل أطراف الحديث مع أحد الأصدقاء، عند البوابة الخارجية للسوق المذكور. أثارني بل استفزني حادث غريب، يوحي بأن هذا الوطن العزيز لم يتخط بعد، عهود القمع والتسلط السالفة البائدة. ولم يُحدث القطيعة اللازمة مع ماضيه القريب المؤلم. ولم يَلج بعد عهد المفهوم الجديد للسلطة، الذي بشر به عاهل البلاد في غير ما خطاب من خطاباته. رجل سلطة مدجج “بسلطته” وغضبه وحتى غروره، قادم من زمن آخر، ومرافـَق بثلاث أفراد من رجال القوات المساعدة، وكأني به ذاهب لتحرير غزة، أو فتح فلسطين، يُشبع بعض الباعة سباً وصراخا وزعيقا، وينهرهم بطريقة حاطة من الكرامة، وماسة بالكبرياء. أمام مرأى ومسمع المارة والعابرين للمكان. لا لِجُرم ارتكبوه، أو ذنب اقترفوه، سوى أنهم يعرضون بضاعتهم (خضر) على أحد الأرصفة، في كشك مرخص من طرف المجلس البلدي. ما يعني أن الأمر لم يكن يتطلب كل هذه العاصفة الصاخبة من العصبية “السلطوية”، ومن استعراض السلطة والنفوذ بالزعيق والصراخ، المتجاوزة لأبسط أصول التواصل والحكمة، التي من المفروض أن يتمتع بها، مَن هم في موقع مسؤوليته، وكل هذا الفيلق من رجال القوات المساعدة، لأجل حل المشكل وإعادة الأمور إلى نصابها.
وبقدرما استفزني الحادث، وألهب أعصابي، ـ وهو ليس الأول الذي رأيته غير ما مرة، وبأم عيني للمسؤول المذكور، وفي نفس المكان ـ بقدرما أثار في ذهني العديد من الأسئلة، بشأن العلاقة القائمة بين المواطنين والمسؤولين القائمين على شؤونه، من قبيل: ماهية المدلول الحقيقي للسلطة؟ وما هي الحكمة من منح السلطة للمسؤول؟ وكيف ينبغي لهذا المسؤول، تدبير واستعمال السلطة في علاقته بالمواطنين؟ وهل ينبغي لهذه العلاقة أن تنبني على الخوف أم الإحترام ؟ ثم كيف ينبغي للمواطن أن يتعاطى مع الشطط في استعمال السلطة الذي قد يتعرض له؟
ففي قواميس اللغة تعني السلطة: المُلك والقدرة. ويعني “السلطان” (جمْع سلاطين) الحجة، كأن تقول “له سلطان مبين”، أي له حجة دامغة. وقد قيل أنه مشتق من “السَّليط”، والسليط ما يُضاء به. ولذلك سُمي الزيت سليطاً، لأنه يُستعمل في الإضاءة، والمَلِك سُمي سليطا أو سُلطانا، لأن به تقام الحجة والحقوق. بينما السَلـْط (بفتح السين وتخفيفها، وسُكون اللام) هو الطويل اللسان الشديدُه. وشتان بين طول اللسان، وإقامة الحجة والحقوق!!
إن مفهوم “السلطة” قد يتباين وفق المجال وسياق الإستعمال، ففي السياسة تعني السلطة، نطاق الصلاحيات المشروعة التي يتمتع بها كيان ما، وفي المجال الأكاديمي، تعني السلطة في مجال ما، الخبرة العميقة. بينما في الفلسفة يتم التمييز بين القوة والسلطة، لكن مهما تباين المفهوم، يبقى مدلول السلطة في المخيال السياسي والشعبي العام، مدلولا سلبيا، يحيل على علاقة غير متكافئة، بين المواطن ومسؤوليه، علاقة تنبني على القمع والخضوع. ولكن هذا المدلول بهذا المعنى، هو في الواقع يستبطن مفهومين في مدلول واحد، وهما “السلطة” و”التسلط”.
وإن النازلة التي بين أيدينا تثير هذا الإشكال، إشكال “السلطة” و”التسلط”، وتجعلنا أمام مفارقة علاقة رجل السلطة بمواطنيه، وما إن كانت هذه العلاقة تقوم على أساس استعمال “السلطة”، أم على أساس “التسلط”، مع ضرورة إدراك البوْن الشاسع بين دلالة اللفظين.
فالسلطة لغة، كما سلف، هي القدرة والمُلك، واصطلاحا، هي القوة المنظمة استنادا إلى القوانين، وإن سريانها والإحتكام إليها على أرض الواقع، يُنتج الإنضباط والإحترام، طبعا ليس للمسؤول، ولكن لهذه القوانين أولا. بينما “التسلط” هو الغلبة القائمة على القهر، التي تنتج الظلم والإحباط، وقد تفرز التمرد والثورة. وهو أي التسلط، مدعاة للإستبداد. يُنتج الخوف، ولا يحقق الإحترام والإنضباط. الخوف من المسؤول المتسلط وجبروته، وليس من القوانين.
وطبعا في الشق الأول يحقق المواطن ذاته ومواطنته، وفي الثاني يتم شرخ هذه المواطنة، وانتهاك الكرامة. فقبل قرنين من الزمن، كان مونتسكيو قد شرح كيف أن الإستبداد والتسلط يقوم على الخوف، لأن المستبد يحرص دائما على الضرب، (بكل ما يعنيه ذلك من دلالات الإنتهاك والقمع) أو التهديد به. كما كان روسو في ذات القرن، قد شرح أن القوة/السلطة، تعني أن تكون فوق كل عنف، ولا تمارس إلا بمقتضى القانون.
وإن القاموس السياسي المغربي، قد أنتج في السنوات الأخيرة، الكثير من المفاهيم المرتبطة ب “السلطة” ترمي كلها إلى تليين المدلول الخشن لهذه الأخيرة، في مخيال المواطنين، وفي أذهان عامة الناس، وتشذيبه، وتلميعه، والتخفيف من دلالته المنفرة والمفزعة، وحتى تقليم أظافره إلى حد ما. من قبيل “المفهوم الجديد للسلطة” و “سياسة القرب”، وما إلى ذلك من المفاهيم الطارئة، التي تحاول كلها اختزال ما يعتري المشهد السياسي من تغيرات وتحولات، تنحو في اتجاه استحضار البعد الحقوقي في تصريف هذه السلطة. وما أصبح ينبغي أن يميز علاقة المسؤول بالمواطنين، من ضوابط وكوابح، تحاول إدماج مفاهيم الكرامة والمواطنة والحقوق في هذه العلاقة، وجعل المواطن محور العملية برمتها، حتى لا تتحول “السلطة” إلى “تسلط”.
وهذا يعني أن المسؤول المعزز بقسط، كيفما كان قدره من السلطة، ينبغي عليه العمل على توفير أقصى درجات الطمأنينة لمواطنيه، والسهر على خدمتهم، وتوفير أسباب الكرامة لهم، بمعنى أن يجعل من هذه السلطة أداة تعزيز وبناء، لا وسيلة قمع وإقصاء.
فروح “المفهوم الجديد للسلطة”، تعني إعادة الإعتبار للمواطن، واستعادته لمواطنته كاملة، غير منقوصة الحقوق والواجبات. هي فلسفة تستهدف بناء مجتمع تؤسس فيه علاقات جديدة، بين المواطن ومسؤوليه، بحيث يكون المسؤول الأكثر حرصا على كرامة وسلامة المواطنين، في إطار تكون فيه السلطة، هي سلطة القوانين وحدها، لا تسلط المسؤول. كما أن “سياسة القرب” بدورها تستهدف في السياق ذاته، الإنصات إلى نبض المواطن وهمومه وانشغالاته. ومد جسور الحوار والتواصل الإيجابي البناء معه، في إطار احترام القانون وكرامة هذا المواطن.
غير أن النازلة موضوع حديثنا، تبدو منفلتة خارج هذا السياق، وتكشف أن ضمن مسؤولينا في هذا الوطن العزيز، من لا زال، يسبح ضد التيار، ويعمل جاهدا على إبقاء المواطن تحت رحمة التسلط، وتحت طائلة استعمال الشطط، المفضي إلى نزع الكرامة وبتر المواطنة. مَن لا زال لم يستوعب الدرس، أو لا يريد أن يستوعب أن قطار التغيير ماضٍ بشكل لا توقف فيه ولا رجعة.
فلو عدنا إلى موضوع الحادث، وحاولنا جدلاً، الإقتناع بأن صاحبنا بطل النازلة، يحاول العمل على إقرار النظام في الشارع العام، بإخلاء احتلال الرصيف والملك العام من الباعة، فإنه من جهة لم يكن من المستساغ أن يُصرِّف سلطته، بالشكل الذي يُعرّض المواطنين للإهانة والتنكيل. بل كان بإمكانه تحقيق الهدف بإعمال القانون، في إطار الحفاظ على كرامة المواطنين. ومن جهة أخرى، لو كان الأمر يتعلق فعلا بتحرير احتلال الفضاءات العمومية، لكان على صاحبنا البدء أولا، بالشوارع التي يحتل الباعة المتنقلون والقارون بها الرصيف، بل وحتى الطريق، احتلالا شاملا على مدار السنة. ويعرقلون بها حركة مرور الراجلين والعربات عرقلة تامة. كما هو حال شارع الزهور، وجميع الشوارع المتفرعة عنه، والمتوازية والمتقاطعة معه، التي تعرف اختناقا وانسدادا كاملا، ناتجا عن احتلال الملك العام. بل وحتى الشارع الرئيسي للمدينة، الذي يحتل الباعة والتجار ومختلف أرباب الخدمات، رصيفه بالكامل احتلالا تاما.
ويكفي لصاحبنا أن يقوم بجولة على الرصيف، من مدخل المدينة الشرقي، إلى حدود الحديقة المجاورة لملعب مولاي رشيد، ليعرف حجم المحنة التي يكابدها الراجلون، من تلاميذ ونساء وشيوخ، ومختلف فئات المواطنين، في التنقل عبر هذا الرصيف. وليَعلم أن الترامي على بائع معزول، يتوفر على بضعة صناديق خضر لا تمثل أي عرقلة، في محل/كشك مرخص من قبل المجلس البلدي، دون سواه من مجموع الباعة في نفس المكان بجوار السوق، هو أمر تحركه دوافع، لا يعلمها إلا بطل النازلة. تخفي وراءها ما تخفي، من انفلاتات وعبث، يطال علاقة السلطة بالمواطنين. وليس ادعاء تنظيم الشارع العام مجاله الوحيد فقط، بل هناك مجالات أخرى متعددة، تعرف نفس الإنفلات، من قبيل مجال البناء العشوائي غير المرخص، وما يشهده من تصرفات شوهت وجه المدينة، وأضرت بجماليتها، خاصة في أحزمة البؤس العمرانية المحيطة بالمدينة، وما خفي كان أعظم..
فليست هذه الصورة سوى الشجرة التي تغطي الغابة. ويكفي لمن يريد معرفة الحال، والتأكد من صدق المقال، أن يختار لنفسه زاوية رؤية جيدة، عند بوابة سوق السمك المشؤوم، على مدار أيام الأسبوع، وعلى وجه التحديد، يوم الأحد، موعد السوق الأسبوعي، ليعلم حجم الكارثة والمصاب، الذي يجر بلدنا جرا، إلى عهود التسلط والإبتزاز، عهود كنا نعتقد أنه عفى عنها الزمن.
وعليه، فلا ينبغي أن نسلط سلطتنا على الضعيف ونرفعها على الشريف، بالنظر إلى أن الشوارع المذكورة، التي تعرف فوضى واختناقات مرورية، يمسك بالحركة التجارية بها، أعيان المدينة وأثرياؤها ومنتخبوها. فالقوانين ينبغي أن تسري على الجميع، وهي ينبغي أن تؤخذ كلها أو تطرح كلها. كما لا ينبغي أن نختار بعض الزوايا والأركان المعينة، فنسلط عليها “سلطتنا”، عفوا “تسلطنا” ونفوذنا وحتى ابتزازنا. لا ينبغي أن نختار لصيدنا الطرائد الضعيفة المعطوبة.
يحدث كل هذا، في الوقت الذي يغط فيه المجلس البلدي في سباته التنظيمي والتدبيري العميق للمدينة، الذي لا يستفيق منه عادة، منتخبونا المحليون سوى عند حلول موعد الدورات، ليملأوا الأرض لغطا، وضجيجا وجعجعة انتخابية، واستعراضا بائسا يائسا، ونقاشا بيزنطيا، بعيدا كل البعد عن المنهجية السليمة، والنقاش الراقي لمشاكل المدينة، وتحدياتها. الذي يستهدف الإقلاع الحقيقي بالتنمية الحقيقية للسكان. علما أن السهر على تنظيم المدينة وتنميتها، هو عين صلاحيات واختصاصات المجلس بقوة القانون، إلى جانب السلطة الوصية.
فلا يخفى على أحد أن الشرطة الإدارية تمارَس على الصعيد الجماعي، من طرف رئيس المجلس، الذي يمتلك عدة صلاحيات من قبيل سلطة الأمر والمنع والترخيص، التي منحه المشرع إياها، بهدف تحقيق الكثير من الأهداف في مجال تدبير الفضاء العام. منها على سبيل المثال لا الحصر، ضمان سلاسة وسلامة وتنظيم المرور، وتحريرالفضاءات العامة. بما يضمن للمواطنين داخل مجال استقرارهم، فضاء ومجالا منظما، ومجهزا، ومتوفرا على كل شروط ومقومات الحياة الكريمة. لكن للأسف، فإن غلبة الهاجس الإنتخابي على طريقة “تدبير” منتخبينا للشأن المحلي، وطبيعة علاقاتهم بعموم الساكنة المحلية، جعلهم يجمدون هذه الصلاحيات، إن لم أقل يتنازلون ويتخلون عنها بالكامل، وينصرفون عن التدبير الحقيقي للشأن المحلي، إلى خدمة منافعهم ومصالحم الخاصة فقط، ويُلقون بالحبل على الغارب كما يقال. ويتركون الأمور تتسيب في المدينة، بشكل جعل أغلب شوارعها وأحياءها، تعرف عبثا لا متناهيا، وفوضى عارمة، على مستوى سلاسة وسيولة تنقل الراجلين والعربات على الأرصفة والطرقات. ولسان الحال أبلغ من المقال. ناهيك عن الغياب شبه الكامل للتنسيق مع السلطة الوصية، والجهات الأمنية لأجل تنظيم المدينة، وبتر مظاهر العطب، وظاهرة التسيب والفوضى. الذي تظهر مظاهره وتجلياته صريحة واضحة ناطقة على الأرض.
إن الزمن الذي كان فيه بإمكان المسؤول أن يعربد في الشارع العام، موظفا سلطاته وصلاحياته توظيفا سيئا، ومستعملا حتى القوات العمومية أحيانا، لتصريف حماقاته ونزواته قد ولى. فينبغي للجميع أن يدرك أن وطننا قرر القطع مع ماضيه السيء الذكر، وما كان يميزه من تسلط وطغيان، واستهتار بحقوق المواطنين وكرامتهم، كما قرر الإنخراط في عهد جديد، ومفهوم جديد للسلطة.
لكن يبدو أن صاحبنا موضوع المقال، لم يدرك بعد، أن وطننا قد انخرط في سياق هذا المفهوم الجديد للسلطة، وإرساء دعائم دولة الحق والقانون، التي تجعل من المواطن وخدمته، وإيجاد الحلول لمشاكله، والتعاطي معه بما يخدم مصالحه، ويحافظ على حقوقه وكرامته، محور العملية بأكملها. ولا زال بطريقة تعاطيه سالفة الذكر، يحن إلى عهد بائد، قائم على القمع وانتهاك الكرامة والحقوق. كما يبدو أنه لم يدرك بعد، أن كل إهانة أو إذلال يتعرض له المواطن، هو إجهاض لطاقة مشاركة فعالة، وبناء فعلي لمستقبل هذا الوطن، وإبطال لمفعول قوة المواطنة الحقيقية، التي تحفز على البذل والعطاء والإرتقاء بالبلاد، كلٌّ في مجال عمله وتخصصه وكفاحه. وفي نفس الوقت، هي مراكمة لغضب متفاقم، وضغط متراكم، يمكن أن يكون ناسفا عاصفا، لن توقفه المسكنات والمهدئات الإستعجالية. ولا عمليات الإنعاش المتأخرة. هو إنتاج لقوة عنف مضادة، وتمرد منفلت.
يينبغي أن نـُعلم مواطنينا كيف يُطيعوا القوانين، لا أن نلقنهم كيف يخافوا من المسؤول ويطيعوه، ينبغي أن نعلم مواطنينا كيف يَقبلوا بأداء الدعيرة عن طيب خاطر، عند مخالفتهم للقانون، لأنهم بذلك يساهمون في بناء الوطن. بدل أن نجبرهم عن دفع إتاوة أو رشوة لمسؤول أو رجل سلطة. ينبغي أن نعلم مواطنينا كيف يحبوا وطنهم ويقدسوه، لا أن نحرضهم على كرهه ومقته، والإنشغال بالتفكير المزمن في الرحيل عنه، وطرح رداء مواطنتهم، عند أول منعطف يُمكّنهم من الحصول على جنسية جديدة، أو هوية بديلة.
إن سلوكاتنا وتصرفاتنا السلبية غير المسؤولة، المليئة بالأنانية، المبتورة من المواطنة، التي قد تبدو صغيرة في علاقتنا بمواطنينا، لها تأثير مزلزل في هدم الوطن، والإجهاز على روح المواطنة. وإذا قـُتل فينا، نبْض المواطنة وحب الوطن، فما قيمة وطن بدون مواطنة؟ !!