بقلم : مبارك أباعزي

مبارك أباعزي

 

 

“بمحاذاة اندهاشك، يتسللون بكبرياءِ أنوثة طافحة، أو بإحساس قوةِ شبابٍ نافرة، ولفرط اختلافهم عنك، تتملى لباسهم المميز، وطلعتهم الفريدة، وقبعاتهم الجديدة التي ثبتوها بشكل مختلف على رؤوسهم، أما خطواتهم المتوازنة فتخضع لإيقاع وموسيقى ثابتين”. هكذا بدأت الحكاية، أو لعلها لم تبدأ هكذا، كانت البداية حينما وجدت تلميذة قد ملأت يدها اليسرى برسومات مختلفة، ووجدت نفسي أطرح أسئلة كثيرة عندما أصبحت تلميذا مشاغبا في حضرتها، ولازمني، أنا الجاهل الجديد بكل شيء، فضول معرفة تفاصيل أخرى، فألفيت عيناي ترمقان هذا وذاك، هذه وتلك، لعلني أظفر بنقطة الجذب في أمر أعتبره فوق قياس اللياقة.

أجسادهم لا تختلف في شيء عن لوحة رسمها عبقري من عباقرة السريالية، استعمل فيها ألوانا يخاصم بعضها بعضا، لكن تنافرها في الحقيقة يحدث للعين ألفة من نوع جديد، ومهما حاولت التعبير عن استيائك من هذه “المحدثات والبدع”، فالنار في كل الأحوال لن تمسها إلا بعد ملايير السنوات. وهل نستطيع أن نخفي أنهم، أصحاب البدع تلك، أسياد الابتكار بدون منازع؟ فهم في الرقصات كعابهم عالية، وفي الغناء أقرب إلى معاناة الشباب وآلامهم، وإلى الحياة أدنى، خلافا لنا، نحن الذين نقتلها بالحلال والحرام.

إنها أجيال جديدة لا تتوقف عن صنع الاختلاف وخلق الطفرات، بدءا بتصفيفات الشعر المختلفة، مرورا باللباس، وصولا إلى طرق التصرف والسلوك، وكل ذلك يعتبر في نظرهم رسالة إلى الإنسانية أساسها التسامح والتفاهم والحوار وغير ذلك من القيم، وهم في حقيقة أمرهم، موالون أوفياء لـ”الجندرية”، إذ لا فروق يجب أن توجد في الجنس البشري، فالذكور ينتعلون أحذية حمراء أو وردية اللون، لكي تتم اللقيا رغما عن أنف الاعتقادات الاجتماعية التليدة.

ومن أهم أساليبهم الجديدة في صناعة الاختلاف ما يسمونه بـ”سْوَڭ”، والكلمة لغويا تفيد “صرة الثياب”، ولكنها في الحقيقة لا تعني مجرد ثياب تقتنى من محل تجاري، بل لها ما يميزها في الدلالة على الثورة والاختلاف ورفض القيم السائدة وإحلال نمط جديد في الحياة. ولعل أهم ما يميزه هو القبعة التي يجب أن تكون حافتها مسطحة، والحذاء الأنثوي اللون الذي يعلو الكاحل بقليل من سنتمترات التفرد.

وإذا كانت القبعة والحذاء مهمين في السْوَاك، فالمسافة بين “الهيب هوب” و”التكتونيك” مثلا، لا تتجاوز اللباس في ضيقه وتوسعه، فالأول الذي جاء لقهر سلطة الرجل الأبيض، يصر على الاهتمام بالملابس الفضفاضة التي تسع جسدين في الحقيقة لا جسدا واحدا، فيما أن ملابس التكتونيك ملتصقة بالجسد، ولا تحتمل دخول عنصر غريب بينهما، وإن كان هاتفا نقالا. وفي كلا الحالتين، يحتاج الأمر إلى تحليل سيميائي لكشف الدلالات الثاوية وراء طريقة اللبس تلك.

ولا يخفى على أحد، أن المتأثرين بهذه الأساليب الجديدة الصانعة للاختلاف، محصورون في فئة عمرية محددة تسمى في مدارس علم النفس بفترة المراهقة، وغالبا ما يتخلون عنها مع تقدم العمر إلا في حالات نادرة. ونظرا لما يميز تلك الفترة من سلوكات، فإن اهتمامهم بهذه الأشكال الجديدة يناسب تماما ميولاتهم نحو التميز وإثبات الذات، وأحيانا تجدهم يعتقدون أنهم فوق الناس أجمعين، ويعتبرون الآخرين مجرد “سيفيل” لا يعرف من أمور العالم شيئا، وغير ذلك من التصورات التي تحتاج إلى معاينة تحليلية.

هكذا هم أبناؤنا، يختلفون عنا دون أن ندرك ذلك، يقاوموننا غيبا دون أن نفطن إلى أنهم منخرطو تنظيم ثوري على ما اعتدناه من لباس، وسلوك، وأخلاق، ونمط حياة. ولو كانوا يعرفون مبادئ “السْوڭ” مثلا قبل أن يقتصر ذلك على لباسهم، لكان ذلك جميلا، فرواد هذا الأسلوب يقولون إن له مجموعة مبادئ من قبيل الثقة بالنفس، وعدم الاهتمام بكلام الغير، وحب الجسد، وحب الأسلوب الجديد في الحياة، والتعامل الجيد مع الآخرين، وغيرها، وهذه المبادئ في عمومها ذات طابع تربوي هام، لكنهم يكتفون بتقليد المظهر الخارجي فحسب، وهذه معضلتنا كبارا وصغارا، فالكبار في حاجة إلى تنظير غربي لمعرفة كيفية تحليل قصيدة أو كتابة قصة، والصغار في حاجة إلى شطحات غريبة من أصول غربية لتقليدها.