تاوريرت بريس :

الخضير قدوري

 

كما مر شهر رمضان وانتهى بيوم العيد ، حين غلقت أبواب دكاكين صناعة وبيع الحلويات التي لا تختلف في شكلها ولونها وطعمها، إلا باختلاف مواقعها في الأحياء الشعبية والأزقة الآهلة بالمارة المتسوقة. وحتى المساجد تنفست الصعداء وتخلصت الى حد ما من الاكتظاظ والاعتكاف وقيام الليل، فلله فضل مجازاة كل من صامه إيمانا واحتسابا
كذلك مر شهر الانتخابات بحملاتها الدعائية ،ومهرجاناتها الخطابية وولائمها الدسمة ،وحفلاتها الساهرة .ثم سوقت الوعود العرقوبية المروجة لأسواق الطمع والكذب والخداع ،حال لم يلبث إلا أياما قليلة فتسدل الخمائل على النوافذ وتغلق أبواب دكاكين الأحزاب، فيجازى أتباعها كلا بقدر ما ملك من وسائل الإقناع ،او ما اكتسبه من خبرات في إبرام الصفقات ،وما تعلمه من فنون الاتجار وأساليب الشراء بالتقسيط والبيع بالجملة في أسواق السياسة. وبالتالي يكون الحاصل قد جمع ما حصل من محصول ،ثم انصرف لحال سبيله كالرابح والخاسر على حد سواء ،فلا أبقى الله بعدهما من بيع ،ولا أحيا من شرا ،ولا رد على من أضاع مضيعته، ولا أنصف من ظلم ومن ظلم على حد سواء ،قد لانملك لهؤلاء جميعا سوى كلمة عزاء ان كانت تجدي نفعا وتخفف ما نزل بهم من عقاب وسوء المنقلب .
ما عدت بعد هذا املك في جعبتي بعد كلمات الحزن والاسى سوى حزمة من الأسئلة المعقدة ،التي تريد ان تنفلت رغما عني وتبحث لها عن أجوبة شافية ،ربما قد تجدها بعد عشرات السنين، وربما قد لا تجدها ولو بعد عدة قرون. فتمنيت بدوري لو أتخلص من ثقلها فالقي به على كاهل الزمان وهو الكفيل بحمله ،ومن عبئها فاضمنه لحافظة التاريخ وهي القادرة على جمع شتات أمهات أفكار من سموا في زمانهم دراويش ،وقد اتهموا بالجنون فنبذوا في العراء ثم تاهوا في الصحراء ،يفترشون رمالها ويلتحفون سماءها ويلبسون ثوب سافياتها. قليل من أتباعهم اخذوا عنهم وسجلوا للتاريخ أقوالهم، وحفظوا لذاكرة الشعوب أساطيرهم .
كالمجذوب الذي قال في حق بلدنا قوله المأثور بالعامية ” المغرب ذرة كبيرة ما تذرها امذاري وسبب خلاه أحكام الدراري ” فمن أقوال المجاذيب إلى أقوال أشباههم المجانين الهائمين في الوديان، قلة من أتباعهم الغاوين الذين حفظوا هذيانهم ، وحملوا إلينا حكمهم كالذي قال في حق دنيانا” تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت وإذا تولت فبالأشرار تنقاد “ومن اقوال المجاذيب والمجانين الى اقوال سيد المرسلين في بعض أحاديثه في شان الساعة ومن اشراطها الصغرى ” ان ترى الحفاة العراة ورعاة الشاة يتطاولون في البناء ” وقد يسري الحديث على كل أشكال البناء المادي والمعنوي وبمعناه الحقيقي والمجازي
ترى أين اختفى هؤلاء الدراويش وهؤلاء المجانين وأشباههم عن أنظار أحزابنا ؟ وأين غابوا عن مجالس من نعتبرهم عقلاءنا وأهل الرأي والمشورة في مجتمعنا ؟ ام ترى هي الدنيا قد تولت حتى باض الحمام على الوتد ،وبال الحمار على الأسد؟ .مهلا أيتها الأسئلة من اندفاعك نحو الفضاء الواسع، فالمنفذ ضيق والباب لا يتسع ،وعلى رسلك يا حامل الأسفار فالطريق طويل والزاد قليل، وعلى مهلك يا من حمل ما أبت الأرض والجبال ان تحملنه فحملته على كاهلك أسرا كما حمله الذين من قبلك ،واحتملت ما لا طاقة لك به فكنت ظالما لنفسك جاهلا لقدرك ومقدرتك
ترى وهل تكون بعض النخب التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة غير ما قيل عنها قد خضعت لتاطير وتكوين حزبي؟ بفضله تضحى في مستوى تطلعات الشعب في أفق العشرية الثانية بعد القرن العشرين ،وتجعلها في مستوى تحدي غول العولمة للتغلب على قوة الاكراهات الاقتصادية الضاغطة التي تنعكس سلبا على الحياة اليومية للمواطنين؟ وهل تكون أحزابنا بالفعل قد قدمت لهؤلاء رجالا ونساء أكفاء قادرين وقادرات على النهوض بثقل هذا الوطن والسير به قدما الى الأمام ؟ وهل يرى المحنكون المتتبعون لمجريات الأحداث في تظاهر بعض الفئات الشعبية الغاضبة ببعض المدن المغربية ضد سياسة المقايضة التي مارستها بعض الأحزاب المغتصبة لإرادتها ،وبعملها على تفويت أصواتها الى حلفاء ما كانت ملزمة على التصويت ضدهم ، باعتبار ما حدث في ملتها واعتقادها اغتيالا للديمقراطية وعملا لا أخلاقيا قلما يحفظ لأحزابها كرامتها السياسية ،لو احتفظت على ثقة منتخبيها الممنوحة لها على أطباق ذهبية ، ام تكون هذه التظاهرات بمثابة الشرارة الأولى التي تشعل الثورة على أحزابنا الوطنية التي تتناوب على السلطة ، وتتربع على كراسي الحكم منذ عشرات السنين ، وتتغذى من أثداء الشعب الذي يرغب اليوم في اختزالها وفق هذه التوافقات الاختيارية والتحالفات الافقية في حزبين او اثنين او حتى ثلاثة على الأكثر، لمجرد حفظ ماء الوجه لديمقراطية اسمية فقدت في تعدديتها الجدية والمصداقية
ام ترى سيكون بعض أعضاء مجالسنا المنتخبين المنبثقين عن هذهالأحزاب على المستوى المحلي والاقليمي والجهوي وكذا الحكومي، في ظل المفهوم الجديد لسياسة القرب التي تروم التغيير ،قد اقتنعوا بضرورة التقليص من اجتماعاتهم ،والتقليل من كلامهم ،والانتقال بأقوالهم الى ميادين أفعالهم ،ام سيظل هؤلاء على غرار سابقيهم منغلقين على أنفسهم في اجتماعاتهم المراطونية وراء أبوابهم المغلقة، منكبين على تحرير المحاضر وانجاز التقارير بلا فائدة ، ؟ ثم بعد ذلك يغادرون على متن سياراتهم الفارهة الى فلل مؤثثة ومكيفة فيخلدون الى نومهم الهادئ والى ضمائرهم المرتاحة ،هكذا دواليك الى ان تنتهي العهدة تلو العهدة ،وتمر السنين وتنقرض الأجيال ،وسيبقى هذا البلد حقلا لمدافن بالية يتجاهلها الزمان ،ومتحفا لمآثر فخارية يتنكر لها التاريخ .
مازال هذا الزخم من الأسئلة تلتمس سبيلها نحو منفذها الضيق، لتتنفس الصعداء وتبحث لها عن الأجوبة الشافية ،او ستبقى مطروحة لعشرات السنين تتجدد مع طلعة شمس كل يوم ضبابي في أفق مستقبل غامض، لم تكن نظرتنا للوضع الراهن تشاؤمية ،ولا كان تناولنا إياه بلغة تيئيسية ،وإنما قد نجد من يرى الأشياء بالعين المجردة الى حد ما ليس كمن يراها من خلال عدسة اصطناعية ،او من وراء نظارة زجاجية او لدنية قلما تعكس للحقيقة الرؤيا الواضحة .