بقلم : الخضير قدوري 

الخضير قدوري

 

لقد انقشعت السحب وهدأت العاصفة فأشرقت الشمس ،ومرت الانتخابات بخيرها وشرها ثم توحدت البرامج والخطابات، وتوافقت الإيديولوجيات والتوجهات وتصافح الأصدقاء الأعداء ،وأنهت التحالفات كل الخلافات السياسية ،وتبادل الخصوم التهاني والقبلات الحارة .ثم ضرب عرض الحائط باختيارات الناخبين التي من اجلها قطعت صلات الرحم بين الآباء والأبناء، والإخوة الأشقاء، والعائلة والأسرة ،والزوج والزوجة، وما نجم عنها من تشريد للأسر وإهمال للأطفال ،ناهيك عن جراح لم تندمل ودماء لم تحقن بعد، قد يعزى أمر ذلك لأسباب متعددة تلقي بكل التهم الى مرمى الشعب
ترى هل بعد كل هذا يكون المقاطعون قد استخلصوا العبر، واستوعبوا فنون اللعبة والكر والفر، وتحققوا من الأثر السلبي للاندفاع العاطفي ؟ أم مازالت الحيل تنطوي على المنتخبين الجدد إلى أن تمر الخمس سنوات وتنتهي عهدة المنتخبين ،قبل أن تنتهي فترة السجون، وتندمل الجراح أو تعود المياه إلى مجاريها الطبيعية
لو بحثنا في أصل جل العداوات بين أفراد الأسر والعوائل ،والعشائر والقبائل في القرى، وبين سكان الأحياء في المدن ،سنجد نواتها هذه الانتخابات وفرعها التأطير السيئ لهذه المكونات ،فهل تكون أحزابنا المؤطرة قادرة على أصلاح ما أفسدته الانتخابات، وإصلاح ذات بين هذه الفئات المتناحرة من اجلها ،وترحم الديمقراطية ضحاياها ،وتحاكم أدعياءها فتقوم اعوجاج مؤسسيها ؟ أم يبقى مبدأ فرق تسد السائد في محيطها أساسيا لتواجدها ضروريا لحياتها
فإذا كانت شريعتها تقضي بحق الأغلبية في الاستيلاء على ذفة الأحكام وتسيير الشأن العام ، قد نجد أحكام مثل هذه الديمقراطية مجحفة إلى حد ما في حق
أغلبية مقاطعة، تتكون من مقاطعين مباشرين وغير مباشرين، ومن كل فئات الشعب كالعازفين والممتنعين، والغير المعبر عن أصواتهم والمغيبين كالمهاجرين ، هؤلاء من يشكلون أكثر من ثلثي المسجلين في اللوائح الانتخابية ،وقد كان من باب الإنصاف الديمقراطي أن تعتبر هذه النسبة أغلبية لها الحق في إعادة الانتخاب للدورة الثانية ، وتقديم مرشحين جدد يتم من بينهم اختيارها للنخب الصالحة
فان كان ذلك مكلفا للدولة فما دونه قد لا يعطي أية قيمة لديمقراطية في بلد لا تمثل فيه سوى نسبة مشاركة شعبية متدنية ، وان دل ذلك على شيء إنما يدل على اختبار الدولة لكفاءة الأحزاب وقدرتها على استيعاب كل الفئات الاجتماعية ،وحنكة زعمائها في تاطير المجتمع ككل ،ومن جهة أخرى يعتبر مؤشرا لدولة ترغب في بناء نظام حقيقي على أساس ديمقراطي سليم ، من المفروض ان تحرص في تأسيسه على رصد فعاليات شعبها التي قد تعيق نهضتها الضغوطات المادية والمعنوية والاجتماعية التي تمارسها بعض الطبقات السياسية المهترئة سيما تلك المتمسكة بزمام الأمور في البلاد، من تعمل على دفع هذه الفعاليات إلى هامش الحرمان واللامبالاة من اجل إعاقتها وإقصائها لئلا تعطى الفرصة للمشاركة في العمل من اجل التغيير، ما حدا بهذه الأخيرة لتكون طبقة غير راضية عن الأوضاع السائدة ،وبتلقائية اختارت العزوف أو المقاطعة أو عدم المشاركة في الانتخابات كأسلوب معبر عن سخطها وتذمرها في صمت ، وكردة فعل حضارية بديلة عن وقفاتها الاحتجاجية أو اعتصاماتها المسترسلة أو إضراباتها عن الطعام ، ردة فعل هادئة لطبقة جديرة بالاحترام والاستجابة الفورية من لدن السلطات الحكيمة من اجل تجاوز الهدوء الذي يسبق العاصفة ،وكل ما سينتج عنها من خسائر وعدم الاستقرار، وما سينجم عنها من شقوق وتصدعات في البناء الديمقراطي
حتى بات من باب الإنصاف الديمقراطي لضمان حقوق الإنسان ،ضرورة إنصاف مكونات الأغلبية المقاطعة للانتخابات ،وإعطاؤها فرصة اختيار ممثليها كفئات اجتماعية يجب احترام أفكارها مادامت تروم إلى خدمة هذا البلد ، لكن دون أن تطوق إرادتها بإطار حزبي يطلق على نفسه اسم حزب المقاطعين أو العازفين أو هما معا على غرار حزب الأحرار، الذي جاء مطوقا لإرادة مجموعات فضلت في وقت ما عدم الانتماء إلى أي حزب ،ورغبت في الترشح الحر، فكانت النتيجة فوز المرشحين الأحرار بأغلبية ساحقة عن كل الأحزاب ،مما جعل السيد عصمان بحكم منصبه كوزير أول أن يطوق هؤلاء الأحرار في إطار حزب أطلق عليه اسم “حزب الأحرار”، رغم ذلك مادام باب الترشيح باسم أي حزب غير ملزم فقد اختار المرشحون الترشح باسم “لا منتمي” حيث استطاع هؤلاء مرة أخرى حصد الأغلبية المعتبرة ،الشيء الذي أدى في الأخير إلى منع الترشح باسم “لا منتمي” أو” محايد ” إلا بشروط تعجيزية ساعدت على تناسل الأحزاب التي اقترب عددها اليوم من الأربعين حزبا، وبنسبة مليون نسمة لكل حزب من مجموع ساكنة المغرب.
ولو كنا سنبحث بجد في جوهر مكونات هذه الأغلبية ،سنجدها من زبد هذا الوطن ومن خيرة أبنائه ،ومن مختلف فئاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الرافضة او الغير راضية على الوضع السائد ،وهي تحمل مشروعا طموحا مغايرا ومناهضا للفساد بأشكاله وألوانه ، وتحلم بغد أفضل في وطن ينعم بخيراته الجميع ، في ظل نظام ملكي منفتح وفي مستوى تطلعات ملك حبا الله به هذا البلد فجعله آمنا مستقرا .من المفروض اغتنام فرصة استقراره قبل فوات الأوان، للنهوض بأثقاله بمعية طاقات كل أبنائه، ولا يتسنى ذلك إلا أن تطوق هذه الأغلبية بإطار تكنوقراطي متحكم فيه بتوجيهات ملكية سامية
لاشك في أن هذه الانتخابات الأخيرة قد أفرزت نخبا جلها اشترى الفوز بأي ثمن، كيفما كان الحال لم يكن بالمجان ،ولا بإرادة معظم الناخبين بشهادة كل الهيئات السياسية والحزبية ان عملية الانتخابات قد شابتها شوائب الفساد ، بغض النظر عن الأسباب الداعية الى المقاطعة والعزوف والغياب والتغييب والمنع والامتناع ، ودون احتساب من لغا فمن لغا لا صوت له. كل هذه الأصناف في مجملها قد تشكل مكونات للأغلبية المقاطعة التي نرى من باب الإنصاف إعطائها حق الانتخاب لاختيار ممثليها في هذا الإطار الذي تحظى بثقته الا وهو الإطار التكنوقراطي ، وإلا ستبقى مهما كان الحال أغلبية غير مؤطرة من تشكل حصاة في حذاء الديمقراطية ،وتقف كحجر عثر في طريق التنمية ، وقد تظل سائرة في اتجاه محو اثر ديمقراطية بالية ،وتعمل جاهدة على تدمير آلياتها الفاسدة وتوقف العربة أمام الحصان ، والى حد ما سيبقى هذا الرأي خطأ يحتمل الصواب ،وصوابا يحتمل الخطأ ،ولكن من سيحدده ويصححه هو الزمان الأتي