بقلم : الخضير قدوري

الخضير قدوري

 

جريا على العادة التي ألفناها منذ عشرات السنين ،كلما اقترب  موسم الصفقات السياسية والمخادعات الانتخابية  في نظر بعض المحللين السياسيين ، فقد بدأت اليوم بعض الزعامات الحزبية تتوافد على هذه المدينة لتعرض منتجاتها الخسيسة، من وعودها الزائفة .إلا انه مع الأسف يبدو أن هذه الزعامات لم تحض بالترحيب والاستقبال اللائقين من طرف شباب هذه المدينة ،الذين كان إقبالهم على هذه المعروضات.شحيحا وحضورهم في قاعة المعرض محتشما ،لم  يتجاوز بعض عشرات الأشخاص ، أمر لاشك لم يليق بمقام زعماء او قادة أحزاب مشاركة في الحكومة، إن دل ذلك على شيء إنما يدل على عزوف بين  لهؤلاء الشباب عن استهلاك هذه البضاعة المنتهية الصلاحية .كما يدل على يقظة فعاليات هذه المدينة بما فيهم مناضلو هذه الأحزاب أنفسهم على مستوى هذه المدينة والمتعاطفون معها على حد سواء. 

     حال يجعل كل الطاقات الثقافية والفكرية والواعية ، تشد بحرارة على أيد هؤلاء الشباب المتعصبين لمدينتهم والمشفقين على سكانها ،ممن يجدون مصالحها فوق كل اعتبار، بغض النظر عن تبعيتهم لهذه الأحزاب .وان كان مثلها  أحيانا يبدو من العار. في زمن مثل زماننا حيث أصبح الواقع لا يخفيه غبار. وإنما كانت مداخلات بعضهم إلى حد ما شافية ،ومثلجة للصدور. سيما وان معظمهم كانوا ومازالوا مناضلين داخل هذه الأحزاب المثيرة للشفقة ،في مثل هذه المواقف الحرجة .والتي كان من المفروض عليها منذ زمان أن تعيد النظر في إستراتيجيتها السياسية والخروج من قوقعتها المغلقة إلى ارض الواقع، والنزول من أبراجها العاجية للوقوف إلى جانب مناضليها على رصيف الشارع وتولي اهتمامها  للطاقات الفاعلة والمثقفة باعتبارها ضمائر الأمة ومحركات المجتمع ،وان تقرا ألف حساب من اجل إقناعها بالملموس ،وليس بمحاسبة أطرها على المستوى المحلي ،وكل ذنبها أنها لم تستطع تعبئة السكان لملء القاعة بمن يهزون أركانها بالتصفيق والزغاريد في حضرة السيد الزعيم أو القائد

       نحن لا نعادي الديمقراطية ،ولا ندعو إلى مقاطعة الانتخابات الجماعية أو غيرها ،ولسنا ضد الانخراط في صفوف هذه الأحزاب كمناضلين متشبعين بمبادئها، ومقتنعين ببرامجها ، ساعين إلى خدمة مصالح وطننا الذي ننتمي إليه ،ومن خلاله خدمة مصلحة مدينتنا التي نسكنها ،فنبني بمعية هذه الأحزاب مستقبل أبنائنا . ولكننا نرفض رفضا باتا أن نكون  صخورا تبنى بنا القصور، ونكره أن نكون مطايا تحمل هوادج العرسان ،ونأبى أن تكون ظهورنا جسورا إلى بر الأمان .وبالتالي لا نريد أبدا أن نكون قطعانا ما خلقنا إلا لنحلب و نجز و نذبح فنؤكل ،ثم يلقى بعظامنا في المزابل  والحاويات

   لقد مر عن الانتخابات الجماعية والبرلمانية للعهدة  الأخيرة فقط أكثر من أربع سنوات خلت ،لم ير الشباب وبالأحرى أن يسمع بزيارة تفقدية قام بها احد هؤلاء الزعماء والقادة ،سواء منهم المشاركون في الحكومة ،كمن هم في المعارضة ،وكأغلبية وأقلية ولو مجاملة إلى هذه المدينة . ليطلع عن قرب على مشاكل سكانها ومشاغل شبابها التائه في زوايا النسيان، الضائع في دروب الإهمال فيحاسب كل من احتال عليهم باسم حزبه ،حتى نال ثقتهم ثم ولاهم الأدبار فإلى اليوم ومع اقتراب موسم إبرام الصفقات الانتخابية الذي لم تعد تفصلهم عنه سوى أشهر قليلة. هاهي هذه الزعامات تعود إليهم كعادتها مرة أخرى تجر وراءها اركسترا لتسمعهم أغنيتها الناشزة ،وتردد على مسامعهم شعاراتها الواخزة ، وتنشر بينهم وعودها الكاذبة ،ثم تحثهم على التسجيل في اللوائح ،وتحفزهم للمشاركة بكثافة في العملية الانتخابية ،حرصهم على تلميع وجه الديمقراطية بأنواع من المساحيق الباهتة ،وزخرفتها بألوان من الطلاءات البائخة ، ومن ثم حجز مقاعدهم في صفوفها الأمامية

     لكن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، والمقصود بالمؤمن هو كل إنسان ذكي ،أرجو أن لا نكون أغبياء عندما لدغنا عشرات المرات منذ عشرات السنين من جحور متشابهة ،كما نرجو أيضا  أن لا نكون سذجا حتى النخاع ، لتنطلي علينا الحيل كل مرة  فتنطبق علينا أغنية المرحوم فريد الأطرش، وما كان مطلعها “…اشتر الحب بالعذاب ، اشتري فمن يبيع ” وإذا كان من بينهم  من يشتري غير حبنا ، نرجو أن لا يكون  بيننا  من يبيع أصواتنا.

    كما نرجو أن لا تخطئ أحزابنا العنوان هذه المرة كعادتها بممارستها لنفس الأسلوب المتقادم والممنهج منذ عشرات السنين باعتمادها على من يسمونهم الأعيان وأصحاب المال، من اجل شراء الذمم  بد لا من بحثها عن النخب الثقافية  ،واحتوائها للطاقات الفاعلة ،التي تنأى عن الرذيلة وتدنو من الفضيلة ،وتختار مجالسها ومخاطبيها وهي لا تريد علوا في الأرض ولا فسادا ،ولا تسعى لاهثة وراء هذه الأحزاب  لتحظى بفتات جودها ،او طمعا في عطائها وكرمها. إنها نخب محترمة  ليس من السهل استقطابها من طرف مثل هذه الأحزاب ،التي قلما تجد بينها من يكون في مستوى زهدها ونقاء سريرتها ، وفي مستوى خطابها وعلى قدر مقامها .وكان هذه الأحزاب مازالت واثقة من نفسها بان عهد محبي دواتهم مازال قائما وبان هذا الشعب لم يريد الحياة وهو  غير مستعد بعد لاستجابة القدر وكان هذه الأحزاب بدورها لا تريد ان ينجلي ليل هذا الشعب او ينكسر قيده ولا تؤمن بان هذا العهد  قد ولى وراء زمن نهضة ثقافية فرضتها العولمة رغما عن انف مكرسي الأمية المعرفية والسياسية والتدبيرية في وطننا، حتى تبقى النخبة بمفهومها العام وفي اعتقادهم هي صاحبة الثروة باعتبارها القوة التي تتحكم في الوضع السياسي،ومن تتربع على عروش الأحزاب التي تفرز لنا حكومات فاسدة ،ومجالس عديمة الفائدة .ما يهمها سوى حماية مصالحها بالدرجة الأولى ،ومن ثم ضمان مستقبل أبنائها بالطبع على حساب منتخبيها. باعتبارهم خدام عروشها ،ومناضليها باعتبارهم بناة صروحها ،وغيرهم من  طوب وصخور ترفع قواعدها ومن بعدها الطوفان واللعنة على التغيير  

  نتمنى أن يعي شبابنا أن السبيل إلى الديمقراطية ليس في التنوع السياسي ،وليس في التعددية الحزبية ،ولا تعني التسجيل في اللوائح الانتخابية ،والتعصب لحزب ما في ظل سياسة فرق تسود، من اجل خلق أقليات ضعيفة لا تشكل  قوة ولا أغلبية ،إلا أن تأتلف مع أي تنظيم سياسي متقارب في الأهداف، منسجم في التوجهات ،متوافق في اتخاذ القرارات ،إلى حد يمكنها من ممارسة اللعبة من اجل تشخيص  ديمقراطية وهمية على مسرح الأوهام ،كشكل بلا مضمون ،وكاسم بلا مسمى ،ومجرد حبر على ورق ثم شعارا بلا معنى. بعيدة كل البعد عن مفهومها الحقيقي في إطار العدالة والنزاهة، والشفافية والواقعية الرامية بكليتها إلى الاحترام والمساواة، وتكافؤ الفرص في كل مجالات الحياة اليومية للفرد والجماعة

     إني لا أرى من الحرية والديمقراطية استغلال جهل الجهلاء وأمية الأميين، وفقر الفقراء وحاجة المحتاجين ،ولا أرى من قرينتها شيئا يسمح لهؤلاء بممارسة نشاطهم السياسي او الثقافي ، فلا مجال إذن من تحويل مفاهيم الحرية ،ولا فائدة من تغيير مضامين الديمقراطية ،ولا سبيل إلى إخماد الطاقات الشبابية ،وكبح مراكب الفعاليات الثقافية ،وتضليل القدرات العلمية ،واستبعاد الكفاءات الإبداعية والفكرية عن مواجهة العولمة باعتبارها آليات ضرورية لتاسيس قواعد الجهوية المتقدمة التي يراهن عليها وطننا  من اجل إقلاع ناجح للدفع بركبه في عرض بحر متلاطم الأمواج نحو شاطئ السلامة