بقلم : طاقي محمد 

محمد طاقي

 

 

تصل عبد الرحمان رسالة إلى حسابه بالفايسبوك. لكنه بالرباط لا يملك المصروف الكافي لتعبئة ذلك “المضمان” (المودم) ليربط حاسوبه بشبكة الانترنيت، فقد كان يقترضه على صديقه المعطل “يوسف” في بعض الأوقات. رسالة مليئة بحروف العطف وعبارات الشوق. قالت له فيها: ” إن الحياة فراغ مهول، لولا أن الله ملأها بأشخاص يعمرون علينا أوشاجها، ويصنعون الضجيج بأرجائها. كانت الحياة قبل أن أعرفك عزيزي عبد الرحمان، حياة ميمية لا أصوات فيها.. حركات وأحداث منزوعة العبرات.. يلعب الأطفال في زقاق حارتنا، تتسوق النسوة وتحملن أكياس المواد التي تبضعتها، ويجلس الشيوخ على أبواب المنازل يبحلقون في المارة ويتبادلون التحايا مع من يعرفون.. لكنها تبقى ضجيجا بلا أصوات.. شوارع وجدة بألف سنة من ذاكرتها، وماضي أرواحها وشهدائها الذي تتنفسه الأجواء.. كأني بها تعيش على كومة من العراقة في زمن يحار التاريخ كيف يؤرخه. مآذنها الكثيرة تزود شرايينها بالهواء، تنسج لها مفاصل الهوية لتطمس ما طمسه المؤرخون بتجاهلهم المقصود وتدفن جثة قلعة راسخة.عزيزي عبد الرحمان مذ عرفتك غيرت لي الماضي بتحف من الذكريات، وبأنفاس من أحلام وبمشاهد من متعة. فقد وهبت لي روح الحياة ومعاني اللحظة وآمال المستقبل.قريبا سيأتي الفرج، وإشارات الساسة بالمغرب وخطابات الملك تبشر بغد مشرق وحياة قابلة للنهضة.. فمغربنا معطاء لا ينكر الجميل.عزيزي عبد الرحمان سنتان مرت على لقائي بك، وسنة مرت على خطبتنا. كانت أشبه بقرون طويلة ولحظات قصيرة.. قرونٌ ثرية بالذكريات، تحسبها لحظات أحلام سعيدة. تعانقت فيها روحي بروحك فلم يعد للوقت معنى. يكفي أنه مرّ بدون احتساب. وهل يحسب الزمن أوقات الحب؟
فالحب يطوي الزمن طياً، يقلص الأعمار كثوان خرافية، ويعرقل دقات العقارب “تيك تاك”. فهو خارج قوانين الساعة. للحب زمنه الخاص وعالمه الخاص به. زمن الحب ليس فيه ساعات ولا دقائق ولا ثواني.. حتى جزء من الثانية فيه نظر. من المحتمل أن حياة العشاق بلا أوقات، لا يقيدها زمن. بل الحب هو الزمن الذي يصنع ساعات العشق ودقائق الغرام وثواني الهيام. عزيزي عبد الرحمان فأنا كلي شوق للقائك”.بكى عبد الرحمان من رسالتها، وأعادها مرات ومرات.. كان مستعدا لقراءتها مئات المرات. لولا نداء يوسف له لطلب “المضمان”. خرج من حسابه بالفايسبوك وهو يمسك بدموع عينيه المغرورقتين بمزيج من الأسى والحنين. ويوسف يذكره باعتصام الغد أمام المحكمة الإدارية، فغداً سينطق القاضي بالحكم في ملف المعطلين أصحاب المحضر 20 يوليوز.كان دائما يتمنى أن يجد قلبا حنونا يعطف عليه، يبادله الحب بالحب. هذا الشعور الذي افتقده الناس بتبادل الرغبات والمصالح. معها يتوقع قصة زواج مطلعها الغرام وتنتهي بالوئام. يربطه بها ميثاق غليظ، يسجله عدل وشاهدان، يوثقان علاقة تراض أبدية. العصمة فيه بين يدي الحب لا بيد الرجل ولا بيد القاضي. الحب هو الخصم والحكم. فلا حكم إلا لمحكمة العواطف، فإن سادت ساد معها رباط الزوجية أما إن زالت زالت معه الرغبة في الاستمرارية. فقد تنقطع أواصل الزواج لسبب من الأسباب ويدوم الحب بين الحبيبين..ظل صابرا لمآسي الاعتصام والتواجد بساحات النضال، يضمد جراحه بالمصابرة، يعايش القهر ويسالم الجور. بل يقهر المعاناة ويدمي الجراح حتى تتألم. فالعشق يزوده بوقود المكابرة.جعله حب “سهام” رجلا فوق العادة ومناضلا صلدا، باحثاً عن لقمة العيش ببسالة. أكسبه مناعة ضد الضرب وتارة ضد الرفس وأخرى ضد الركل. اعتاد على ذلك الألم..كان مولعا بالأفلام الهندية وقصائد الغزل التي نظمها الشعراء في معشوقاتهم. يتأمل قصص الحب التي انتهت بالسعادة ويأخذ العبرة من التي انتهت بالفراق.. فرب حب مكتمل الأركان هو بداية الوفاق. وعليه فأن تقع في الحب أسهل ما يكون، لكن أن تعيش بالحب يبقى الأصعب. مما يدل على أن بصيرتنا أمام أسرار الحب عمياء..فقد يموت العشق بموت العشاق، ويبقى الحب.لولا الحب لما عاد للإنسان مفهوم لإنسانيته، ومن الحقيقة المنسية مفهوم للواقع. هكذا صنع الفارق في إعطاء معنى للحياة أكثر من مفهوم ومقصد وغاية.
ظل عبد الرحمان يستقبل عبارات محبوبته سهام، يراسلها وتراسله، ويغازلها ثم تغازله.. نسجت الأقدار بينهما شريط حب، كما لو كان جسراً تخجل منه الأحزان، وتستحي منه الآلام. أمام شريعة الوجدان تضمحل الفلسفات ويموت المنطق وينهار العقل. ومعه تعلو فطرة الأحاسيس وتبدأ سلالة جيل جديد مولع بالمغامرة.. لم يعد يطيق بعدها، بالأحرى فراقها.. كلما مرت عليه أيام عصيبة زاد حبه فيها. كما لو كان يجذف في بحر عميق، ذلك هو الغرق في الحب. تماما مثل السباح لمجرد أن يسمح للماء يدخل جوفه إلا وهدد بذلك حياته بالغرق.. شرب عبد الرحمان الكثير من بحر حبها حتى غرق شهيداً في تلابيبها.