بقلم : طاقي محمد

محمد طاقي

 

 

تخرج الطالب عبد الرحمان من جامعة محمد الأول، بشهادة من أسلاك الماستر، ظنا منه سيجد الوظيفة في استقباله، وتفرش له الورود لقدومه.. فرحا بتلك الورقة “الكارطونية” التي حصل فيها على ميزة مستحسن. انتزع ذلك النجاح على أقرانه وقد ناقش
رسالة الماستر مبكراً.. عله يسبقهم للعمل وقد شاهد أفواجاً من الأطر المعطلة تلتحق بالربيع الوظيفي نسبة للربيع العربي الذي جعل الحكام والرؤساء يفتحون باب مناصب الشغل تخفيفا للاحتقان في أوساط المعطلين.. ليشتروا بذلك رؤوسهم وكراسيهم التي طارت في بلدان عربية وسلمت منها بلدان أخرى. حاليا يملك الورقة السحرية والشهادة المربحة التي لطالما انتظرها لدخول أسلاك الوظيفة العمومية بدرجة السلم 11. ممنيا النفس بالزواج وتربية الأبناء وشراء بيت يسدد مصاريفه بالتقسيط للبنك.. كان منتشيا بشهادته فقد فتحت له شهيته للحياة كبقية الخلق. شاكرا التونسي “محمد البوعزيزي” الذي قدم حياته قربانا لململة الشعوب بثوراتها في أمصار البلاد الناطقة بحرف “الضاد”. إن سألت المعطل “عبد الرحمان” كيف حصلت على شهادة الماستر، تنهد تنهيدة مليئة بالحسرة، فيجيبك بأنه درس ست سنوات في المدرسة وثلاثا بالإعدادي وثلاثا بالثانوي وأربع سنوات بالإجازة وسنتين ونصف بالماستر.. لأن أغلب المعطلين درسوا سبعة عشر سنة فما فوق. فتفهم من كلامه أن أدنى شهادة بالمغرب ذات قيمة علمية تفني طفولتك وشبابك على مقعد خشبي، وسبورة خشبية ولوحة خشبية المحفز الأساسي لتلقينك العلوم والمواد والعمليات الحسابية وكتابة النصوص رغما عن أنفك.. مع تلك التنهيدة أخرج جحيم الحرمان، وسخط السجن المدرسي طيلة سنوات عقيمة لتلقين طفل بريء ” بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي”، ليجد جحيم الحياة بعد تخرجه.. بالنسبة لتلميذ فتي كلمات “بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي” كانت كافية لتعلو بمخيلته البسيطة إلى مغرب جميل وحياة كريمة تشعره بالسعادة، مغرب الشواطئ ومغرب الرمال الذهبية والغابات الخضراء، وكذا مغرب التدشينات في ربوع الوطن على خطى الملك الحسن الثاني، كما كان للأعلام الحمراء المرفرفة خفقات ينبض معها قلبه الرهيف.. وتزداد خفقانا مع النشيد الوطني للمملكة منتظرا تلك النهاية في آخر القصيدة ليهتف مع أقرانه ” الله، الوطن، الملك”. كانت أحلامه تكبر مع وطنيته، وكلما انتقل من مرحلة دراسية لأخرى زادت طموحاته وأحس بالتوجس حيال مستقبله.. فقبل ولوج أسلاك الجامعة لا أحد يستطيع إقناعه أن الوطن الذي تسري فيه أنفاسه بوطنيته وعاداته وتقاليده ولهجاته ومزيجه الثقافي، نختصره في لفظ معاصر جمع الحمولة للهوية المغربية “تمغربيت”. هو الوطن نفسه ناكر للوطنية. “تمغربيت” عند عبد الرحمان أو الوطن الذي أحبه قد ينكر عليه عيشاً هنيئاً بسيطاً كباقي الأحياء. وهذا الوطن نفسه يتمرغ في نعيمه أناس ليسوا أكثر منه في الحب والإخلاص والتضحية، غير أن وطنيتهم تلك هي بمثابة مصدر دخل لهم، شبيهة بالدجاجة التي تعطيك بدون مقابل، وتبيض لك ذهبا على مدار الساعة.. بينما وطنيته هو مسار مليء بالكذب والخداع تلقنه إياه وسائل الإعلام، وحرمان من أبسط حقوقه في التطبيب والدراسة والسكن والعيش.. ما إن غادر عبد الرحمان الجامعة حتى فاز حزب السيد بنكيران بالحكومة، وتنفس المغاربة والمعطلون الصعداء.. ابتهجوا بفوز حزبه الذي ترأس الحكومة، وأصبح السيد بنكيران أول رئيس للحكومة بعدما بشر في حملاته وشعاراته العباد والبلاد بالعدالة الاجتماعية ووفرة المناصب وإحقاق الحقوق وعقاب الظلمة ومحاربة الفساد ونهضة المغرب.. كان عبد الرحمان المعطل دائما يدافع عن حزب ابنكيران ويفتخر بترديد عبارة ابنكيران الشهيرة: “نحن إلى صف الشعب وسننحاز له “. لاحقاً فهم أن ابنكيران ابن المخزن البار، وجاء لتنزيل القرارات التي كانت صعبة على جميع الحكومات السابقة التي لم تتجرأ قط على سن قرارات لاشعبية في حق الشعب المسكين.. ما زال يمني نفسه بضريبة التوافقات والتنازلات وأن الحكم يتطلب مزيدا من الصبر والتضحية. لكن أماله الوهمية وأمانيه الوردية وأحلامه الغبية تطعن على حائط شعارات الزور بعد كل قرار يصدره ابنكيران. الآن وقد خبر بهتان الحكومة الإسلامية، فهو يشعر بأكبر أكذوبة عاشها في حياته، وأسذج طموح تمناه ، وأغبى خديعة انطلت عليه باسم الدين .. فانخدع وجدانه وكيانه لأنه كان يحب كل شيء له صفة إسلامي. ولم يعتقد قط أن الإسلاميين يكيدون ويسترزقون وينتهزون وقد يمارسون حياتهم وتحركاتهم وأفعالهم بما ليس من الإسلام في شيء على أنه من الإسلام، يضفون عليه شكل الدين ويبقى الجوهر والمضمون شيء آخر تماما. الإطار “عبد الرحمان” يحتاج إعادة إعمار نفسي من هول الصدمة ومراجعة لطريقة تفكيره البسيطة مما حل بها من سذاجة وسطحية، انطلت عليه بحسن نية كغيره من ملايين المواطنين الذين خُدعوا ولا يزالون. عبثاً كانت نفسه تصارع عقله، تصارع الأخبار الوافدة يوميا من تصفح الجرائد. عقله متوقف من صدمة التحليل ونفسه لازالت تتعاطف مع الإسلاميين وتحاكيه بأن التماسيح والعفاريت هي التي تتآمر على حكم وعدل ونزاهة وصدق “الحكومة الإسلامية”. عقله لا يستوعب بتاتا نشر لوائح المستفيدين من الريع الاقتصادي مثل مقالع الرمال والمأذونيات دون وقفها أو الحسم فيها. لم يستوعب بعد رفع الدعم عن المواد الأساسية وإلغاء صندوق المقاصة. ولم يفهم قط سياسة التقشف التي تنهجها الحكومة في تدبير شؤون المغاربة وضَبْر جيوبهم، ولا تعمل بها اقتداءا برؤساء العديد من دول العالم الذين تبرعوا بنسب مهمة من أجورهم، إضافة إلى خفض الكثير من امتيازاتهم ومصاريف الميزانية المواكبة للبرتوكولات الرسمية لديهم وولائم البذخ، كحسن نوايا لهذه السياسة. لم يدرك “عبد الرحمان” التباين في خطابات شد الحزام واشتعال الأسعار وبين تغيير تأثيث المكاتب وتبديل سيارات الدولة والزيادة في أجور البرلمانيين وحماية تقاعدهم عن مدة انتداب خمس سنوات تظل خزينة الشعب تدفعها لهم من جيوب وقلوب وعروق ودماء المواطنين مدى قيد حياة هؤلاء الساسة.. أيعقل أن تدفع صناديق الأمة تعويضاً عن منصب وزاري أو برلماني بعد انتهاء ولاية هذا المنصب مدى حياته ؟!! وهو لا يجد ثمن تذكرة حافلة يقلها، أو ثمن “سندويتش” يشبع جوعه. في كل مرة يتذكر كيف ساند هذه الحكومة التي يترأسها حزبه المفضل وكيف كان يتصل بعائلته وقبيلته من أجل التصويت لصالح ابنكيران.. ولا زال يتذكر لحظة وضع مصير وظيفته بين يدي فرحته باختيار علامة تصويته للائحة المصباح يوم الانتخابات المشؤومة التي حملت معها وزر البطالة ووضعت على رقبته قيد السخط والقهر وتسميم الحياة. لم يكن يعلم أن مجرد علامة على مصباح ستسحق أحلامه وتظلم مستقبله وتطفئ نور واقعه وتهبط به في قاع الهم والبؤس وتضع رزقه قيد الانتظار

يتبــــــــع