بقلم : الخضير قدوري 

الخضير قدوري

 

 

     أهم ما تميزت به المهرجانات الإقليمية هذه السنة كغيرها في جميع الأقاليم، اهتمامها البالغ بالفرس والتبوريدة ،بغض النظر عن الأنشطة الفنية الأخرى، مع تغييب تام ومتعمد لكل ما هو ثقافي واقتصادي واجتماعي وفكري ولرأسمال غير مادي بشكل عام  ، رغم أن الدعم الموجه لهذه المهرجانات لم  يوص باستثناء هذه القطاعات أو بإقصائها أو تهميشها على حساب الأخرى، التي تعكس الميوعة والرقص والمجون الموجه بالأساس إلى فئة القاصرين والمراهقين، فتقدم اليهم كسم في وجبات دسمة وجرعات من أفيون معتق تسكب في أكواب الشاربين باسم الفن الراقي والثقافة الصحيحة ومباركة السياسيين والدعاة .

     قد لا يجد المرء ذو العقل السليم ،ما يسخر من اجله القلم ليسطر حرفا ذهبيا على صفحة فضية من صفحات تاريخ هذا الإقليم ،ويهمس كلمة معبرة في أذان ذاكرة هذه المدينة ، حتى كان خياره الأفضل، أن لا يقول شيئا ولا يفعل ،كما هو التعري والتفسخ والإباحية على القنوات الفضائية والأرضية من الأعمال الفنية التي تمنح لأصحابها صفة الفنان او الفنانة .

          على غرارها تبدو الفروسية والتبوريدة وغيرهما كنشاط فني ورياضي تارة وتقليدي وتراثي أخرى وكلها مواصفات لأنشطة قد تمنح لأصحابها أيضا صفة المثقف او المثقفة ،كباطل يراد به حق ولا يقصد به سوى تغيير المفهوم الصحيح للفن والثقافة وتسخيره فيما هو سياسي ونفعي ،وما العمل على تغييب هذان العنصران رغما عن   كونهما أساسيان بمعناهما الثقافي والفني الحقيقيان ،وما الاهمية المولاة للفروسية  الا من اجل تبرير رفع الدعم عن علف الفرس من طرف صندوق المقاصة إلى حين تعميم “الكوتشيات ” التي قد تمنع هذا الحيوان من الانقراض وتوفر مناصب شغل لمن يعتنون به لتتحول اسماؤهم ذات يوم من فرسان الى سواق الكوتشيات التي قد تصبح وسيلة من وسائل النقل  في المدن ذات الأزقة الضيقة والبنية التحتية الهشة ، كمدينة تاوريرت التي لا تتسع أزقتها ولا تستجيب لحركة الناقلات والحافلات المهجرة ، وحتى الطاكسيات الصغيرة التي جاءت ذات يوم كصيحة حضارية لتحدث قطيعة بين حاضرها وماضي عربات يدفعها الإنسان وتجرها الحمير، لتتقدم خطوة الى عالم التحضر والتمدن ، فاذا بها تتاخر خطوات الى عالم التبدي والتصحر ،وربما بالرجوع الى تحديث زمن الكوتشيات ما سيحدث نقلة نوعية إلى عالم التمدن والتحضر، لمدينة تحرز كل المواصفات الرديئة ،وتلصق بها كل الاتهامات الدنيئة ، وتلحق بها كل النعوت البذيئة ، التي لا تشرف ساكنتها ولا ترقى بها إلى مصاف المدن المتقدمة ، التي لربما بفضل ما تتوفر عليه من متناقضات ستجعلها بقدرة قادر ليس كغيرها ،وإنما هي مدينة سياحية وثقافية من نوع خاص، كما هي اقتصادية   بكل المقاييس والمواصفات،

    وأما بالنسبة لباقي الأنشطة ، فقد يراها بعض الملاحظين من زاوية اخرى انها تدخل في إطار الصفقات التجارية ،المدرة لإرباح قد يجنيها المنظمون والقائمون بأسماء الفن والثقافة والإبداع ووو  وإلا فأي تقييم علمي أو فكري مادي أو معنوي لأي مهرجان في هذا الاقليم بصفة عامة قد يحدد بموجبه مستوى النجاح أو الفشل، وأية إدارة للاتصالات الإعلامية وأخرى لترشيد النفقات وضبط الحسابات وحفظ الارتسامات لمن يرغب في الاتصال  بها ،فتمده بالمعطيات والمعلومات الحقيقية التي يمكن تدوينها للتاريخ .كل ما نسمعه عن الأرقام الخيالية من مساهمات جهات سخية، تقدر بعشرات المئات الآلاف الدراهم، قد صرفت كأجور مقابل خدمات مجانية ،وقدمت كأسعار لمشتريات استهلاكية ، بمبالغ مضخمة قلما يتقبلها العقل السليم ،مع ملاحظة مالا يختلف عليه اثنان  حول هذا الإسراف والتبذير للمال العام

     في حين نجد المدينة التي تحتضن هذه التظاهرة لا تتوفر على بنية تحتية في مستوى الحدث من حيث النظافة والتنظيم والانضباط بما في ذلك جنيات ساحة المسيرة المخصصة لهذه التظاهرة التي كانت ومازالت تتضوع برائحة البول والازبال لانعدام المراحيض ومدارات للمياه في غياب تام لدور ما يسمى التدبير المفوض

      كما نجد مئات المرضى يتقلبون على أسرة مهترئة ،وفرش متسخة ومتآكلة ،هي في أمس الحاجة إلى حبات أسبرين بمستوصفاتنا العمومية في المدن والقرى ، ومشفانا الإقليمي الذي ينحدر اليه المرضى من كل جهات الاقليم ومن كل فجها  العميق وهو يفتقر إلى حقنة وشريط لاصق ومطرقة من اجل دق مسمار في نعش ،والى مقص من اجل تفصيل كفن وهلم جرا .مئات المتوجعين في طوابير تترأس بأبواب قسم المستعجلات وعشرات مرضى القصور الكلوي ينتظرون دورهم على لائحة انتظار الموت منذ عدة شهور، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم تتاح لهم ولو فرصة واحدة من اجل التصفية في مركز تاوريرت ،بدعوى اكراهات مادية تحول دون توفير جهاز واحد قد لا يتجاوز سعره سعر رقصة على خشبة ونفخة في مزمار أو دقة على طبل  أو طلقة  بارود كانت إلى حد ما كافية لإنقاذ حياة وإسعاف مريض وإسكان الم متوجع وكما هي كافية أيضا لقتل كثير من الضمائر الحية، لا اخص بالذكر بلدية تاوريرت لوحدها اذا كان الامر يتعلق بمؤسسة استشفائية اقليمية ومسئولية ما يعانيه المواطنون بداخلها هي مسئولية المجلس الاقليمي  وكل الجماعات والبلديات الاخرى لاسيما التي تنظم  هذه المهرجانات

      ترى هل كانت نفقات المهرجان واجبة وضرورية وذات أولوية ،قبل حياة الإنسان المريض المتوجع ، ودون حاجات الإنسان الجائع والظمآن والمنقطع، الم يكن من حق المواطن أن يستفيد من درهمه الأبيض ليومه الاسود . فإذا كان مهرجان تاوريرت المدعم من جهات متعددة قد اقتصد في الإسراف مقتصرا على توزيع  قنينات الماء المعدني على شرف المدعوين تحت الخيام الظليلة والأضواء الساطعة ،فهل ارجع البصر كرتين الى أحياء تغرق في العتمة وأخرى يعاني سكانها من العطش في أطراف المدينة ، فينقلب اليه البصر خاسئا ثم يفرك أجفانه ليكتشف الحسابات الخاطئة ، قد لم يكلف ثمن ربط هذه الأحياء  تكلفة إيجار خشبة الرقص لليلة واحدة الم يفكر احد المدعمين والممولين والمنظمين لهذه المهرجانات على مستوى الاقليم في دعم  المتوجعين في صمت على أسرة متهالكة وأعينهم الى السماء شاخصة فيدركون ثقل الأمانة على عاتق من قبل حملها ،ام ترى سيفتى بحل تحويل ذلك الى جيوب الجشعين، وحق صرفه الى حسابات المترفين، والمغنيات والمغنين  الذين لو طلب منهم لتبرعوا بما جنوه لفائدة المتهالكين            

                    نفس السؤال قد يوجه إلى منظمي مهرجان سيدي لحسن ،الذي يعتمد هو الأخر في تمويله على دعم نفس الجهات، ومساعدات بعض الجمعيات .إلا أن  هذه الجماعة التي تعتبر من أفقر الجماعات المحيطة والتي لا تعتمد في حياتها سوى على ما ينتجه الجبل من عشبة الازير، رغم ذلك فإنها لم تقتصر في افتتاح مهرجانها كالعادة على الماء المعدني والمشروبات الغازية والشاي والحلوى ،وإنما قد تميز على سابقه  بتتويج مواده “بالمشوي” الدسم و”السكوك” الساخن ،واختتامها  بالتبرعات الحاتمية على كثير من الفرق المشاركة ، في مختلف القطاعات تحت أغطية  مختلقة الم يفكر هؤلاء في خلق محميات للوحش وخلق مشتلات لتغذية النحل وغرس الأشجار في الجبال العارية التي يجرفها التصحر ويحددون جوائز تشجيعية وتحفيزية للفلاحين المنتجين لأنواع الخضر ويتفننون في تربية الماشية وإنتاج اللحوم والحليب وغيره  والعاملين على توفير الاكتفاء الذاتي للقرية حتى في مجال النقل والتواصل وفك العزلة على كثير من الدواوير والمداشير وعلى الأقل إنشاء دراسة كاملة ومتكاملة لحاجيات سكان القرية  وبغض النظر عن المهرجانات الاخرى يكون اقليمنا قد استهلك ميزانية لايستهان بها دون فائدة ولا اية نتيجة

    على العموم ،إن أهم ما يمكن أن يسجله كل متتبع ذو ضمير حي لأنشطة هذه المهرجانات، طغيان طابعها ألتبذيري للمال العام أكثر منه ألتدبيري للشأن المحلي ، من طرف المسيرين والمنظمين والقائمين على مثل هذه التظاهرات ،التي كان من المفروض أن تهدف إلى مقاصد ذات مردودية مادية أو معنوية تعود بالنفع العميم على المواطن الذي يساهم بمشاركته الفعلية .وتنتهي بنتيجة ايجابية توجه إلى خدمة صالح المدينة والقرية ، وتختتم بتوصيات من اجل توفير الدواء للمريض أولا ،والعيش الكريم لذوي الحاجة ثانيا ،ثم إعطاء الفرص للطاقات الشابة، الإبداعية والثقافية والاقتصادية والتنموية ،وتعمل على تشجيع المواهب واكتشاف القدرات التي تعزز بها لائحة رأسمالها الغير المادي ، التي يمكنها أن تشكل قيمة مضافة إلى قريتها ومدينتها لتعزز مكانتها في إطار الجهورية الموسعة ،كان تسلم جوائز تحفيزية وشواهد تقديرية لأحسن  وأنظف حي وأجمل بناية وحديقة وشارع وتنظيم اسواق الاحياء في اطار سياسة القرب بدلا من مطاردة الباعة المتجولين من الازقة والشوارع  وتضييق الخناق على اسرهم  كأسلوب تحفيزي بدلا من الممارسات  الزجرية  . اليس من  أجل هذا وذاك  يجب أن تدعم وزارة الثقافة وغيرها هذه المهرجانات ،وليس من اجل “المشوي” وما تبعه من ممتلئات  البطون ومحركاتها على مختلف الإيقاعات والأنغام  . فلا بأس إذا شبع البطن وقال للرأس غني، ولكن البأس إذا طوي البطن وقال للعقل إليك عني

         وبالتالي ربما قد يجد أي مجنون مثلي  من أهم ما يعطل الفكر في هذه المدينة ، ويشل العقل في تلك القرية ،تصرف هؤلاء العقلاء الذين انتخبهم أهلهم وسكان قريتهم و مدينتهم ،لأموالهم أو جاههم بمقابل أو بدونه لا يهم ، أو لعلمهم وثقافتهم ،أو لأفكارهم ومعارفهم، أو لحنكتهم السياسية كذلك لا يهم ، الا ان يكونوا قدوة لأجيالهم من يجب أن  يضرب بهم المثل في  التدبير وحسن التسيير ويسطروا على صفحات التاريخ سطورا ذهبية ويهمسوا للحياة بكلمة قد تقولها بعد الرحيل فتحفظها ذاكرة المدينة او القرية للاجيال القادمة كاغنية من الاغاني الخالدة  ،ولما كانت تصرفاتهم مخيبة للأمل فقد جعلتهم كمعالم ثقافية وعلمية وفكرية وسياسية  خالية من روح وعقل وبصيرة وهم يتصرفون في شئون أهاليهم بأفكار بلدائهم ،وعقول أغبيائهم ،الذين بات معظمهم يكتشفون انه لا فرق بينهم وليس ثم ما يميزهم عنهم ، بذلك يكونون قد أساءوا بأفعالهم إلى سمعة عامة المثقفين، وعموم السياسيين وليس في مثل ذلك يتنافس المتنافسون .على أي فشتان ما بين المثقفين السياسيين، وما بين السياسيين المثقفين، وشتان ما بين التسييس الثقافي، والتثقيف السياسي.

        فان كانت الدوافع ظروفا سياسية وعوامل طبيعية قد يساء فهمها هي من تتحكم في التوجه العام وتفرض عليهم الرضا بالأمر الواقع ، كان من المفروض على ضمائرهم الحية  أن تأبى مطاوعة هذا التوجه  وان ترفض نزعتهم الثقافية مسايرته فتدفع  به  في اتجاه السياسة الجهوية الموسعة التي يراهن عليها المغرب في إطار منافسة  بناءة تعتمد على الطاقات الفاعلة لتي تتوفر عليها هده المدينة او القرية  وتجعل مصلحة البلد فوق كل اعتبار، أما إذا كانت هذه الطاقات المغلوب على أمرها التي تعاني التهميش والإقصاء ولا ترى من سبيل غير الهروب من واقع  لا ترى في افقه مغيرا لأحوالها فيرجى ،ولا مبدلا لأوضاعها فينتظر ،فهل ينبغي لساسة هذا البلد ومسيروها أن يسكبوا المخدرات في أكوابها  فيزيدون بذلك الطين بلة وصدق القائل اذ قال ” قد تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ، وإذا تولت فبالا شرار تنقاد “، وما دامت الأمور تسند لغير أهلها ، معنى ذلك أن دار لقمان مازالت على حالها ،

      مهرجانات هنا وهناك، وحفلات هنا واحتفالات هناك ،وإيقاعات على أوتار قلة من السكان في القرى قد لا يهمهم سوى التبوريد، وكثير من الشباب في المدن قد لا يهمهم سوى التعويد و الرقص والتغريد ، وبين هؤلاء وأولئك فلتخفق الشاة وليموت البعير ولينغمس في اللهو الرعاة  وعلى الوطن السلام

        على أي حال فان نكن شعبا راقيا سنبتلى بمسيرين أرقى ،وان نكن شعبا يمثل رأس المال غير المادي ،سنبتلى برجال أعمال يضمنون الربح المادي، فان نكن شعبا راقصا، سنبتلى بدقاقي الطبول ونافخي المزامير فان نكن شعبا مدمنا على المخدرات سنبتلى بمبضعين لا تأخذهم بنا شفقة ولا رحمة  وبالتالي كيفما نكون سيولى علينا  . ورحم الله الملك الحسن الثاني حين قال لمثلي ” أعطيني شعبا سويسريا وسأعطيه حكما سويسريا ” ورحم برحمته من عرف قدره وجلس عنده، ولا رحم من عرف انه إنسان فتغاضى عن حق الإنسان وكل ما نرجوه ان يعيد هؤلاء نظرهم في مواد المهرجانات المقبلة وان يحددوا اهدافها ومراميها وإستراتيجيتها من اجل تدبير الشأن العام