بقلم : الخضير قدوري

 قد اكتب لكل من يقرا ويفهم ،وهم قلة والله اعلم
قديما كان الأمراء والملوك والخلفاء يجالسون الظرفاء والشعراء في زمانهم كالقضاة والمسئولين والمدراء من ينبغي لهم ان يجالسوا الفلاسفة والحكماء في زماننا ،كان الأولون يفعلون ذلك خارج أوقات عملهم، وأحيانا بعد صلاة العشاءين فإلى ما بعد صلاة الفجرين ، عندما يكونوا قد قضوا الهزيعين في السهر مع هؤلاء الجلساء ،ليس فقط من اجل الترفيه والترويح عن النفوس عناء اليوم ،او صرف الوقت فيما لا يفيد من الطرائف والنوادر والهراء، او الإسراء الى عالم الغزل والمدح والهجاء مع من يهيمون في كل الوديان ويقولون مالا يفعلون كما يتوهم البعض ، خلافا لما قد يهدف اليه المنظمون لمثل هذه المجالس وما قد يراه المقربون وراءها من المآرب الأخرى
ان كان أولئك الظرفاء والشعراء يجودون بما تجيد به قرائحهم من هذه الأصناف الأدبية للتباري من اجل التقرش، لكن ما كان يبتغيه بلغاء زمانهم ويهدف اليه منظموا لقاءاتهم سوى استنباط الحكم من طرائفهم ونوادرهم ومن أشعارهم الموزونة وكلماتهم الرزينة ،عملا بالمقولة القائلة ” خذ الحكمة ولو من حجر” حتى كان كل ذلك يعكس لهم صورا من الواقع الخارجي الذي ضلوا في شغل عنه وراء الجدران الأربعة وما يصطلح عليه في زماننا بالمكاتب المغلقة ،منقطعين عن مجتمع باتوا منشغلين عنه في اللهو منهمكين بالمجون بعيدين عن كل سمع وبصر
اليوم كالأمس فأولئك الخلفاء والأمراء في زمانهم ،ما كانوا سوى امثال هؤلاء القضاة والمسئولين والمدراء في زماننا ،وما كان الظرفاء والشعراء في زمانهم، سوى أمثال المفكرين والفلاسفة والحكما ء في زماننا ،وما كانت دواوين الأولين في زمانهم سوى أمثال مكاتب الآخرين في زماننا . إلا أن ابواب الأولى كانت تفتح على مصراعيها في وجه شعرائها وظرفائها لتنفتح عنهم على مجتمعاتها ،اما الآخرة فانها تنغلق على نفسها وفي وجه حكمائها وفلاسفتها وبلغائها ونابغتها ، لينفرد من في داخلها بالرأي والاستبداد ويغرقون في مستنقع الخبث والفساد
جرني الحديث الى تذكر طريفة من طرائف احد ظرفاء زماننا او حكمائه وهم ليسو قلة ، من الذين كلما جالستهم لتسألهم او قبل ذلك فيلقوا اليك بحكمة بليغة قد تعيها او لا تعيها ذلك شانك ،ولا يبخلون عليك بموعظة مجانية قد تقبلها او ترفضها الأمر أمرك ، وما حدث بعد ان كنت أتتبع في قاعة المحكمة مراحل ملف ضل بين أيدي بعض قضاتنا عفا الله عنهم مدة من الزمن ليست بالقصيرة ،عندما كان المتقاضيان كل مرة يتبادلان التهم أمامهم فيلقى بها الى مرمى المحاميان ثم يطوى الملف الى جلسة لاحقة بعد شهر او سنة ،تساءلت مع صاحبي عن النهاية المفترضة لهذا الملف ومن يا ترى سيصدر الحكم له او عليه ،حيث كان يبدو لي من أول وهلة كمحلل ذكي اعرف بحقيقة المتقاضي وصدق الشاهد وإخلاص المحامي ،وهو أدرى بالثقوب والثغرات القانونية التي قد يستغلها القاضي في إطار سلطته التقديرية ،والتي يجعلها تفرض في الأخير على كل الأطراف إسناد الأمر للمحكمة الموقرة ، ثم سألني صاحبي عمن أراه سيخسر القضية في نظري ، قلت ربما ذلك الذي ضل صامتا جامدا قلما كان يجيب على أسئلة القاضي بخلاف غريمه الذي يدافع عن نفسه بشجاعة كما تراه يرشق خصمه بالحجج الدامغة والأدلة الثابتة ،لاشك انه سيربح القضية وما رايته سوى صاحب حق لا محالة ، طلبت من يوسف زماننا أن يفتيني في رؤياي ان كان للرؤيا معبرا ثم انه ابتسم ابتسامة سخرية عريضة قائلا بل أرى غيره من سيربح القضية يا صديقي ،سألته كيف ،قال ذلك ما علمني إياه الزمان وحنكتني التجربة كلما كنت أرى القاضي يحدق الى المتقاضي ويقطب في وجهه ويطعن في حججه ،ويتظاهر بعدم الاقتناع بدفوعاته ويقلل من صدق أدلته كلها موحيات توحي الي انه سيحكم له ،سألته ان كان الحكم مطابقا للقانون قال القاضي قاض يقضي ولا يقاضى والقانون فوق الكل وتحت القاضي وكل الناس خطاءون الا القاضي انه اذا قضى امرا قال له كن فيكون ، و قضي الأمر الذي فيه تستفيني يا صديقي، وكان القاضي قد حجز الملف للمداولة فاصدر حكمه وفق ما أفتاني صاحبي مجانيا الصواب وقول من استخلفه للحكم بالعدل بين عباده مخالفا لتعليمات من نصبه قاضيا يقضي بالحق بين أفراد شعبه وضدا عن قناعته ورغما عن ضميره ، قبل المدعى اوالمدعى عليه ، وجدت الظريف قد أصاب الصواب بتأويله للأحكام بليغا في قراءته للسيناريوهات ولكن مع الأسف لم يكن مشاركا في الإخراج ،عندئذ رأيت في رأيي المتواضع ليس بخير كل من من الله عليه بمهنة القضاء ان توخا العدل سيفرض عليه العدل الزهد في الدنيا مخافة الله ،وان توخا الظلم اضطره الظلم الى الزهد في الآخرة مؤاخاة للشيطان ، خياران أحلاهما مر والنفس أمارة بالسوء يبقى الويل ويل وللقاضي واسع النظر