بقلم : الخضير قدوري

الخضير قدوري

 

       

 مازالت قضية الصحراء بين مدها وجزرها تخلق كثيرا من المتاعب للشعب المغربي الذي أصبح في وضع لا يطاق ، يفرض عليه قلب الطاولة . منذ أكثر من أربعة عقود خلت ما زالت هذه القضية تراوح مكانها بين المضاربين السياسيين ، والمتاجرين الاقتصاديين ، والمسترزقين في الداخل كما في الخارج على حساب الشعب المغربي المؤدب اللطيف الوديع . وقد أصبحت قضية الصحراء مصدر تراكم الثروات بالنسبة لبعض الطامعين ، ووسيلة لتصدير الفتن وتلهية الشعوب بالنسبة لبعض السياسيين . فالشعب المغربي  يدرك ذلك أكثر من أي وقت مضى ، واحتمل من الصبر ما لا يطاق . و قد  حنكته التجربة وعلمه الزمان كيف يحل مشاكله بنفسه كلما دعته الضرورة لذلك ، وما كان الحسن الثاني سوى احد  مكونات  هذا الشعب ، حين قال قولته الشهيرة لما باءت بالفشل محاولات علاجه لمثل هذا المشكل بالطرق الحضارية ” كبرها تصغار ” وقد كبرها الحسن غير ما مرة فصغرت .

      وأما بالنسبة للشعب المغربي فقد كان الراحل بمثابة الزمام الذي يرد به جماحه . كما شبهه  ذات يوم بالأسد الرابض الذي لا يغادر عرينه إلا لكسب قوت يومه ، و لا يكشر عن أنيابه إلا في وجه من يحاول اقتحام مربضه أو إيذاء أشباله . واليوم لا ذلك الجموح ، و لا هذا الرابض ، و لا احدهما عاد يحتمل الصبر على المضض لسنوات أخرى ، بل لشهور بل لأيام . كما لم يعد يعتمد على دبلوماسيته الفاشلة ، و لا على حكوماته العاجزة ، ولا على برلمانه الضعيف . وحينما نقول هذا نعني جهاز هذه الدولة التي تمارس سياسة المؤدب الضعيف والحمل الوديع .

      و إذا كان الحسن الثاني قد اعتمد في سياسته على المرجعية التاريخية ، فانه  لم يكن بذلك صاحب فكر رجعي . وإنما رجلا حكيما يستقي معلوماته من منابع ماضي النبغاء ، ويعلم أن عداد السنين والقرون لا يعود للوراء . لكن حساب الأيام قد يبدأ من واحد إلى سبعة ، و التاريخ وحده من يستطيع تحديد أبعادها ومواكبة سيرها ، ثم يعود للأجيال المتلاحقة والمتعاقبة بأخبار أحداثها ومواقعها ، فيذكرها بمن عمر ومن دمر ، ومن أصلح ومن افسد في هذه الأرض وسفك الدماء .

    و إذا كان الشعب المغربي قد هزم وهجر المستعمر الفرنسي عن أرضه بوسائل تقليدية ، لم تكن ترقى إلى مستوى القوة الاستعمارية آنذاك ، وبأقل تكلفة في الخسائر المادية والمعنوية وحتى الأرواح بالنسبة لكثير من البلدان المستعمرة . لو سمح اليوم  لهذا الشعب باستعمال أسلوبه في مواجهة المستعمر الاسباني لحسم الأمر ، ولما دام احتلاله لأطراف وطننا لمدة قد تزيد على عشرين سنة أخرى ، لكن الحكومات المتعاقبة أرادت معالجة الحال بأسلوب حضاري وعقلاني مغاير ، في ضل  القوانين الدولية واملاءات الأمم المتحدة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية ، إلى يوم سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي . ما جعل استعمال قوة السلاح من اجل استقلال الأوطان وتحرير الشعوب غير مجدية ، لكن هذا البديل مازال لم يؤتى أكله بعد ، و إنما زاد الطين بلة ، كما زاد في إطالة اعمار الاحتلال والمنازعات الدولية ، كما هو الحال بالنسبة لقضيتنا الوطنية على الخصوص ، و لقضايا شعوب أخرى كفلسطين مثلا .

        ولما باءت بالفشل كل محاولات حكوماتنا من اجل استرجاع الأراضي المغربية بالطرق السياسية وبالأساليب الديبلوماسية ، هاهو الاحتلال الاسباني شمالا ما زال يمارس على مواطنينا هناك سياسة فرق تسد ، و الأخر شرقا يشغلنا بتدخله في شؤوننا الداخلية ، على مطالبتنا إياه بتسوية الأوضاع الحدودية . كل ذلك بات يحتم على الشعب المغربي مرة أخرى ممارسة أسلوبه التقليدي المعتمد على حكمة الحسن الثاني ، المستمدة من التاريخ الإسلامي ، والمتمثلة في تنظيم مسيرة شعبية سلمية حضارية من اجل استرجاع الأقاليم الصحراوية . أسلوب قد يراه البعض مغامرة ، كما يراه البعض الأخر همجية ، لكن مبدعه أراده كما أراده “فكبرها لتصغار”

 

    في وقت يرى العالم أن عهود الاعتماد على قوة السلاح من اجل الاستقلال والتحرير أصبح متجاوزا وأصبح الاعتماد على العقل المتحضر بديلا للعقل المستعمر، من اجل حل كل المشاكل التي خلقها هذا الأخير، من اجل ترسيخ سياسته الرامية إلى فرق بين الشعوب تستعبدها ، لان في تكتلها قوة لا تقاوم فهاهي المسيرة الخضراء قد أبانت عن حكمة الحسن الثاني في تحرير الصحراء ، التي عبأ من اجلها كافة شرائح المجتمع المدني ، وجعلها قضية شعب وليس فقط هي قضية ملك وحكومة .

        ولكن هل تحررت الصحراء ، وهل أفلحت المسيرة الخضراء ، وهل نجحت سياسة الحسن الثاني ومن بعده سياسة محمد السادس في إنهاء مشكلها المفتعل من قبل الجار القريب من الدار منذ أربعين سنة ، بإيوائها لشرذمة من المرتزقة على ارض مغربية محتلة هي الأخرى من طرفها ، فكان الغرض من ذلك استنزاف الجار وشغله عن المطالبة  باسترجاعها . فهل كانت المسيرة الخضراء  قد أصلحت ما أفسدته الدبلوماسية ، أم كانت ضرورة ما ينبغي لملك البلاد القيام به في إطار ” كبرها تصغار” بمثابة الفيتو الذي يجب على الشعب المغربي أن يمارسه كحق كلما دعت الضرورة لذلك . وما ينبغي لخلفه أن يذكر به هو الأخر  ليعيد التاريخ  نفسه .

     فإذا كانت سياسة المغرب لم تفلح إلى حد ما في إقناع الدولة الاسبانية من اجل التخلي على احتلالها لأراض مغربية طوال أكثر من عشرين سنة بعد نهاية الاحتلال الفرنسي . فان الحسن الثاني لما عاد إلى التاريخ وجد أن الأمر لم تجديه الدبلوماسية ، ولا السياسة ولا التفاوض ولا الأمم المتحدة . آنذاك قال  ” كبرها تصغار ” وقد استعمل الحسن الثاني رحمه الله هذا الفيتو مرتين  ، الأولى أثناء حرب 63 مع الجارة الجزائر، بعد أن ظل يحاضرها ويناظرها ويكشف لها عن عواقب الحرب على البلدين ، ويدعو قادتها إلى التعقل . لكن الجانب الأخر لم يتفهم أو يتوقف عن تماديه في غلوه . ثم للمرة الثانية حينما فشلت كل المحاولات السلمية مع اسبانيا من اجل استرجاع الصحراء ، وعزمه على تنظيم المسيرة الخضراء كأسلوب حضاري ، مكفن بالهمجي إذا ما دعت الضرورة لذلك في إطار ” كبرها تصغار ” لكن وجدت اسبانيا في مستوى التحضر حين قبلت بإنزال العلم ورفع الأخر .

        فإذا كانت الثورة كلمة قد يموت صاحبها وتبقى، كذلك كانت المسيرة الخضراء ثورة قد مات مبدعها وسيبقى الشعب المغربي وفيا لروحها ولشعارها ” كبرها تصغار” وقد أفضى بها وارث سره صراحة للسيد  بان كي مون ولغيره ممن يريدون أن يجعلوا من قضية الصحراء مرتعا للمرتزقين الماديين والمعنويين ، ومركبا للسياسيين . وبؤرة متوترة بين الإفريقيتين تشكل فتيلا يمكن إشعاله في أي وقت وحين ، كلما أراد الغرب المستعمر إعادة احتلاله لأية دولة من الدول المراد استعمارها الاقتصادي والثقافي من جديد . وقد أحيطت  بعدة أزرار مشدودة إلى ألغام يمكن تفجيرها كلما أريد لها الانفجار ، على غرار دويلة إسرائيل في الشرق الأوسط . فإذا كانت دول الغرب والأمم المتحدة تعتبر المقترح المغربي جديا و واقعيا وذا مصداقية ، فما المانع  من إقناع الطرف الأخر بضرورة الانصياع لما هو جدي و واقعي وذا مصداقية . أما إذا كان الواقع يراد به استدراج الجزائر والدفع بحكامه  إلى حشر أنوفهم في هذا المستنقع رغم أن هذا الواقع مازال يصرخ في صدورهم و يعصر قلوبهم وينادي في عروقهم  بمغربية الصحراء والصحراويين ، كما الطوارق في جنوب وطنهم وكما غيرهم ، لكن لما كان حكام هذه الدولة غير مستقلين سياسيا ، ولا متحررين فكريا ، وبحكم عصبيتهم  مازالوا ينقادون وراء أفكار من يريدون بهم شرا  وهم لا يعلمون . فيساقون إلى الهاوية وهم أيضا لا يشعرون بان استفزازهم للمغرب سيجرهم إلى مالا يحمد عقباه . و إذا كان المغرب يمد يداه إلى الجزائر والى الحكام الجزائريين من اجل التعقل وقراءة عواقب التقاطع والتناحر والتنابز و التباعد ، وهم يحسبون ذلك ضعفا وجبنا وخوفا . فالأمر كذلك ولكن بمعنى أخر ، فالمغرب والمغاربة أخشى ما يخشون أن يؤكلوا يوم سيؤكل الثور الأبيض .

     هل يعلم حكام الجزائر وكل من يتعاملون بقضية الصحراء كعملة وكوسيلة من اجل بلوغ أهداف شخصية و أغراض سياسية محدودة ، هي في الوقت ذاته منفعة ضارة . فمتى يعلم السياسيون الجزائريون أن الفقمات تقتل من اجل فرائها ، وبأن الفيلة تقتل من اجل أنيابها ، وبأن ارض الجزائر التي تفور بالغاز يجب أن تتجنب الحرائق  والشرر المتطاير من أية جهة ، وتبتعد قدر إمكانها من الفتائل المشتعلة . فإذا ما حدث ذلك لا قدر الله سيكلفها اجر المتدخلين لإطفاء نارها وحرائقها ثمنا غاليا على غرار ما هو واقع في العراق وليبيا وغيرهما . حذاري يا جزائر من اللعب بالنار ، فحتى الجار ليس بناج سيخنقه الدخان إن لم يصبه الشرر .   

     وعليه فان كانت  الصحراء مغربية جغرافيا ، و ارض الشعب المغربي تاريخيا ، فان هذا الأخير قد أصبح اليوم في حل من كل القيود التي تمنعه من تحرير أراضيه من كل المسترزقين والمتاجرين في الداخل كما في الخارج . إذ لم تعد الديبلومسية السياسية مجدية فان كلمة “كبرها تصغار” تبقى واردة في كل الأحوال بمثابة الحل الجدي والواقعي وذو مصداقية . متى سمح نجل القائل بإضافتها  كشعار إلى النجمة الخضراء على الراية الحمراء . وإعطائه إشارة الانطلاقة لمسيرة محمدية ثانية ، لكن بلون أخر في اتجاه تندوف والصحراء الشرقية هذه المرة . ومن ثم بناء سد فولاذي ، وليس جدارا رمليا ، في إطار مبدئنا  “كبرها تصغار” كمبدأ من المبادئ الأساسية الراسخة في عقول الشعب المغربي ، والفيتو المعتمد من اجل استكمال وحدته الترابية ، وانتزاع كل حقوقه السياسية  .