تاوريرت بريس :

المغرب

 

إذا كان صحيحا أن تخليد حدث مؤسس في حياة الأمم ترافقه في أغلب الأحيان عادات وطقوس جميلة وشهادات قوية في حق الأسلاف، ففي المغرب، أصبح تخليد ذكرى ثورة الملك والشعب (20 غشت 1953)، مرادفا لطفرة متجددة تزخر بمعاني التقدم.
فنظرة خاطفة على الماضي أو الحاضر، يصادف تخليد هذه الملحمة المظفرة، التي تعود بنا إلى التضحيات الجسام التي قدمتها أجيال مغربية من أجل نيل الاستقلال، ذكرى ليست أقل أهمية لمستقبل الوطن : إنه عيد الشباب، الذي يصادف هذه السنة، الذكرى الـ53 لميلاد صاحب الجلالة الملك محمد السادس.
واللافت للنظر أن هناك ثمة حقيقة رائعة، نفحة ملحمية وضاءة وتضحيات نبيلة جلية قدمها الآباء والأسلاف يفتخر بها وتكرم كما ينبغي، كما أن الخطب الملكية الموجهة بهذه المناسبة، تدعو إلى التفكير بعمق، ودحض الشكوك، والالتزام بالعمل ..باختصار، إنها ثورة متواصلة لملك وشعب.
وفي هذه الخطب السامية، نكتشف، في ثناياها إحساسا صادقا، وارتباطا عميقا، وأحداثا متواصلة تدعو الأمة إلى القيام بوقفة تأمل من أجل تمحيص موضوعي لتقييم الإنجازات، وتحديد مواطن الضعف والاختلالات القائمة، وتحضير دخولها المقبل واستشراف المستقبل.
ولتثمين مضامين الخطب الملكية، ربما يكفي الأمر النظر في المواضيع البارزة التي تطرقت إليها خلال الأربع سنوات الأخيرة، والتي أكد فيها جلالة الملك، ببراعة، على جملة من الأولويات ورسم فيها محددات ومعالم دخول جديد.
وعلى هذا المنوال سار خطاب 20 غشت 2012، الذي أشاد فيه جلالة الملك، كما جرت العادة، بقيم البطولة والفداء، والتضحية والوفاء، في سبيل نيل حرية المملكة وضمان وحدتها وسيادتها، قبل أن يتوجه جلالته إلى “الشباب المغربي الواعد، المتطلع لبناء مستقبل يليق بأمجاد الماضي وعظمته”.
وقبل أن يشدد جلالة الملك على المنظومة التربوية، وقدرتها على تكوين الأجيال الصاعدة، وإعدادها تحقيقا للاندماج الكامل في المسار التنموي الديمقراطي الوطني، أكد جلالته على أنه “عندما نتطرق لموضوع الشباب فإننا نستحضر تحديات الحاضر وآفاق المستقبل، والحديث عن المستقبل يتطلب، فضلا عن التحلي بكل ما يلزم من النزاهة الفكرية لاستشراف آفاقه، وضع الاستراتيجيات الكفيلة بإعداد شبابنا لغد أفضل”.
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فقد أشار جلالة الملك إلى أنه “إذا كان شبابنا يتطلع بكل مشروعية إلى القيام بدوره الهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية٬ فإنه يرغب كذلك في الانخراط في مجالات الإبداع الثقافي والفني، الذي تظل فضاءاته غير متكافئة، بين مختلف المناطق المغربية”.
بل الأفضل من ذلك، فإنه من غير المقبول، يضيف جلالة الملك، “اعتبار الشباب عبئا على المجتمع، وإنما يجب التعامل معه كطاقة فاعلة في تنميته. وهو ما يقتضي بلورة استراتيجية شاملة، من شأنها وضع حد لتشتت الخدمات القطاعية المقدمة للشباب، وذلك باعتماد سياسة تجمع، بشكل متناغم ومنسجم، مختلف هذه الخدمات”.
تبقى الإشارة إلى أنه، في هذا الخطاب، حرص جلالة الملك على التفعيل الكامل لمقتضيات الدستور، التي تكفل للجالية المغربية المقيمة بالخارج “المشاركة، على أوسع نطاق ممكن، في بناء مغرب المستقبل” و”الحضور الفاعل في الهيآت المسيرة لمؤسسات جديدة”.
وللتذكير فقط، فإن تخليد اليوم الوطني للمهاجر يتزامن مع 10 غشت كل سنة.
وبخصوص موضوع التربية والتكوين، يجدر التذكير بأن الخطاب الملكي الذي وجهه جلالة الملك في 20 غشت 2013، شدد على أن القطاع، وعلى الرغم من الإنجازات والمكاسب التي تحققت، “يواجه عدة صعوبات ومشاكل، خاصة بسبب اعتماد بعض البرامج والمناهج التعليمية، التي لا تتلاءم مع متطلبات سوق الشغل”.
ويرى صاحب الجلالة في خطابه السالف الذكر أنه “لا ينبغي إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية”، بل يجب وضعه في إطاره الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، “غايته تكوين وتأهيل الموارد البشرية، للاندماج في دينامية التنمية، وذلك من خلال اعتماد نظام تربوي ناجع”.
وعلى نفس المنحى الاستشرافي، أعطى الخطاب الملكي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس للأمة في 20 غشت 2014، تشخيصا دقيقا للمكانة التي يستحقها المغرب، حيث أكد جلالته أن “المغاربة شعب طموح يتطلع دائما لبلوغ أعلى الدرجات، التي وصلت إليها الدول المتقدمة”، وأنه البلد الذي تمكن عن طريق عبقريته الفذة ونموذجه المتميز “ترسيخ مساره الديمقراطي، وتوطيد دعائم نموذج تنموي، مندمج ومستدام”.
وقد استعرض الخطاب الملكي مخطط المغرب الأخضر، ومخطط “اليوتيس” ومخطط التسريع الصناعي، علاوة على الأداء الدولي للمكتب الشريف للفوسفاط وقطب “ملوسا” طنجة، والمخطط المغربي للطاقة الشمسية والريحية، والشراكات مع دول مجلس التعاون الخليجي وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء والوضع المتقدم للمغرب لدى الاتحاد الأوربي، واتفاقيات التبادل الحر مع الولايات المتحدة، والشراكة الاستراتيجية مع روسيا والشراكة مع الصين، بالإضافة إلى دور المغرب باعتباره حلقة أساسية في ترسيخ التعاون الثلاثي ومتعدد الأطراف، ولا سيما بهدف ضمان الأمن والاستقرار والتنمية في إفريقيا.
وفي سياق ذلك، قال جلالة الملك في خطابه “لقد بلغ نموذجنا التنموي مرحلة من النضج، تجعله مؤهلا للدخول النهائي والمستحق ضمن الدول الصاعدة. إلا أن السنوات القادمة ستكون حاسمة لتحصين المكاسب، وتقويم الاختلالات، وتحفيز النمو والاستثمار”.
وما جرى ذكره ليس معناه أنه يجب الاستكانة إلى الخمول. فالعنصر البشري، الذي يعد الثروة الحقيقية للمغرب وإحدى المكونات الأساسية للرأس المال غير المادي، يشكل، كما يوضح جلالته، “أساس الرفع من التنافسية، للاستجابة لمتطلبات التنمية، وسوق الشغل، ومواكبة التطور والتنوع، الذي يعرفه الاقتصاد الوطني”.
وسيرا على نفس النهج الريادي، أتاح الخطاب الملكي الذي ألقاه جلالة الملك في 20 غشت 2015 تقديم عرض شبه استشرافي بشأن الانتخابات الجهوية والمهنية التي ميزت الحياة السياسية للسنة المنصرمة، والتي واكبت الجهوية المتقدمة، حيث قال جلالته بشأنها، “نريدها عماد مغرب الوحدة الوطنية والترابية، والتضامن بين الفئات، والتكامل والتوازن بين الجهات”.
وفي سياق متصل، حرص جلالة الملك على توجيه “تحية إشادة وتقدير لكل الأجهزة الأمنية على تجندها ويقظتها في التصدي لمختلف المحاولات الإرهابية التي تحاول يائسة المس بالنموذج المغربي، الذي يشهد العالم بتميزه”.
ولفت جلالة الملك إلى أنه “سواء تعلق الأمر بنجاح الجهوية، أو بالحفاظ على الأمن والاستقرار، فإن القاسم المشترك، هو خدمة المواطن المغربي”.
وخلاصة القول أن الخطب السامية التي وجهها جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب تحيل على مغرب جديد جدير بتاريخه العريق وقادر على مواكبة حاضره ومنفتح على أبنائه، إذ يعتبر جلالته أن تلك “هي أمانة ومسؤولية تاريخية، علينا جميعا النهوض بها، لمواصلة حمل مشعل الثورة المتجددة للملك والشعب، من أجل مغرب الوحدة والتضامن، والأمن والتقدم”.

.